صلة العولمة
عولمت الجريمة المنظمة الدولية نشاطاتها لنفس الأسباب الذي تدفع شركات مشروعة متعددة الجنسيات إلى عولمة أعمالها. وتماماً كما تُنتج شركات متعددة الجنسيات فروعاً لها حول العالم للاستفادة من الأيدي العاملة الرخيصة أو من أسواق المواد الأولية، كذلك تفعل مؤسسات الأعمال غير المشروعة. أبعد من ذلك، تُنشئ أيضاً مؤسسات الأعمال، المشروعة منها وغير المشروعة، مراكز لها عبر العالم لتلبية حاجات الإنتاج، والتسويق، والتوزيع. تستطيع مؤسسات الأعمال غير المشروعة أن تتوسع جغرافيا للاستفادة من هذه الظروف الاقتصادية الجديدة بفضل الثورة في الاتصالات والنقل الدولي. وكذلك يُعولم الإرهابيون نشاطاتهم للاستفادة من القدرة على تجنيد الناس دولياً، وللبقاء بالقرب من جاليات المهاجرين المشتتين التي تستطيع دعمهم لوجستياً ومالياً، كما ليتمكنوا من اختراق المجتمعات الأكثر ثراءً. كان لانتهاء الحرب الباردة تأثير هائل على بروز الجريمة العابرة للحدود القومية. فمع نهاية المواجهة بين القوتين العظميين، تقلص احتمال نشوب نزاع واسع النطاق. ولكن، منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، حدث ارتفاع هائل في عدد النزاعات الإقليمية. لسوء الحظ، كثيراً ما تم ربط السلاح والقوى البشرية التي تنفذ هذه النزاعات بالنشاط الإجرامي العابر للحدود من خلال التجارة بالممنوعات: المخدرات، الألماس، والناس. ولّدت هذه النزاعات بدورها عدداً لا سابق له من اللاجئين وألحقت الأضرار بالاقتصادات المشروعة في مناطق هذه النزاعات التي أمست لاحقاً أراضٍ خصبة لتجنيد الإرهابيين، أو ملاجئ آمنة لتخطيط العمليات الإرهابية وتدريب الإرهابيين. التقدم التكنولوجي العظيم الذي تحقق خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ساعد بدرجة هائلة نمو النشاطات الممنوعة العابرة للحدود القومية. فنشوء حركة السفر الجوي التجاري، والتحسينات في أنظمة الاتصالات (بضمنها الهاتف، والفاكس، والاتصالات السريعة عبر الإنترنت)، ونمو التجارة الدولية سهلت جميعها الحركة الفعلية للسلع والبشر. يستغل المجرمون والإرهابيون سرية غرف الدردشة عبر الإنترنت لتخطيط وتنفيذ نشاطاتهم. استخدم إرهابيو 9/11 أجهزة كمبيوتر عامة لإيصال رسائلهم ولشراء تذاكر السفر الجوي مباشرة. بصورة مماثلة، استخدم مهربو المخدرات في كولومبيا اتصالات لاسلكية مرمزة لتخطيط وتنفيذ عملياتهم. تقترن مع العولمة إيديولوجية الأسواق الحرة والتجارة الحرة وانحسار تدخل الدول في الشأن الاقتصادي. استناداً إلى دُعاة العولمة، سوف يؤدي هذا التقليل من القوانين والحواجز الدولية المقيدة لحرية التجارة والاستثمار، إلى زيادة التوسع التجاري والإنمائي. لكن هذه الظروف بالذات والتي تُعزز البيئة المعولمة، تكون حاسمة أيضاً لتوسع الجريمة. استغلت كل من عصابات الإجرام والإرهاب هذا التقليل الهائل في الأنظمة والتخفيف من وسائل مراقبة عبور الحدود، والحرية الأكبر الناتجة عن ذلك، لتوسيع نشاطاتهم عبر الحدود وللوصول إلى مناطق جديدة من العالم. وقد ازداد اليوم تكرار هذه الاتصالات وتسارعت ممارستها. ففي حين يخضع نمو التجارة المشروعة للتنظيم عبر الانصياع لسياسات مراقبة الحدود التي يرصدها موظفو الجمارك والأنظمة البيروقراطية، تستغل بحرية مجموعات الجريمة التي تتخطى الحدود القومية، منافذ التهرب المتوفرة في الأنظمة القانونية للدول، للتوسع في بسط نفوذها. يسافر المجرمون إلى مناطق لا يمكن فيها تسليمهم إلى حكوماتهم، وينشئون قواعد لعملياتهم في البلدان التي تكون أجهزة فرض تطبيق القانون فيها غير فاعلة أو مرتشية، ويبيّضون أموالهم في دول تتبع نظام سرية المصارف أو لا تُطبّق سوى عدد قليل من قوانين المراقبة الفعالة. ومن خلال تجزئة عملياتهم يحصد المجرمون والإرهابيون فوائد العولمة، وفي نفس الوقت يقللون من مخاطر عملياتهم. ازداد حجم التجارة العالمية بشكل هائل خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كما ترافق مع التدفق المتعاظم للسلع المشروعة زيادة مرور السلع الممنوعة. يُشكّل إيجاد السلع الممنوعة من بين تدفقات السلع المشروعة تحدياً حقيقياً. فهناك نسبة صغيرة جداً من سفن الحاويات فقط تخضع لتفتيش شحناتها، الأمر الذي يُسهل نقل المخدرات، والسلاح، والسلع المهربة. وهكذا، يمكن نقل المخدرات على سفن سمك التونا لتجنّب اكتشافها بسهولة، كما يمكن استغلال تجارة العسل لنقل الأموال وتوليد الأرباح لمنظمة القاعدة في نفس الوقت. شهدت العقود الأخيرة تصاعداً في أشكال عديدة من الجريمة المعولمة. كانت تجارة المخدرات أول قطاع للممنوعات يحقق أقصى الأرباح في عالم معولم. حقق المجرمون أرباحاً هائلة من المتاجرة بالمخدرات، واستخدمت مجموعات إرهابية عديدة تهريب المخدرات كمصدر هام لتمويل عملياتها. لكن، بعد ان ازدادت المنافسة في سوق المخدرات، وتعززت أساليب فرض تطبيق القانون الدولي لمكافحتها، انخفضت الأرباح بسبب المنافسة والمخاطر المتزايدة، وكانت النتيجة ان استغل العديد من المجرمين والإرهابيين أشكالاً أخرى من الجريمة سهّل تنفيذها الاقتصاد المعولم. استفاد المجرمون والإرهابيون بالتالي مالياً من ازدياد التجارة بالأسلحة وعمليات تهريب البشر. كما حصلت زيادة هائلة في التجارة غير الشرعية بأجناس الحيوانات المعرضة للخطر، بالنفايات الخطرة، بالأعمال الفنية والآثار المسروقة، بالسلع المزيفة، وبالجريمة المعولمة المتصلة ببطاقات الائتمان. تستغل كل من الجريمة المنظمة والإرهابيين كافة هذه النشاطات، وفي بعض الأحيان حتى بصورة مترادفة لكليهما. كذلك، تطورت صناعة من الخدمات الرئيسية لتوفير خدمة لكافة فئات المجرمين الذين يتخطون الحدود القومية. تشتمل هذه الخدمات على مزودي الوثائق المزورة، ومبيضي الأموال، وحتى مهنيين من المستوى العالي يقدمون خدمات قانونية، ومالية، ومحاسبية إلى كلا المجموعتين. يتبيّن هذا الاتجاه من الحقيقة الظاهرة في محاكمة بنك ريغز في واشنطن العاصمة، الذي شملت لائحة زبائنه القانونيين رؤساء أميركيين والعديدين من أفراد المجتمع الدبلوماسي في العالم، والذي تمّت مقاضاته لقيامة بتبييض الأموال لديكتاتور غينيا الاستوائية ولتسهيله لعمليات تحويل الأموال إلى إرهابيين، فحُكم عليه بدفع غرامة مقدارها 25 مليون دولار. تُبيّن هذه القضية ان نشاطات المجرمين والإرهابيين لا تبقى دائماً ضمن نطاق اقتصاد الظل، بل تتقاطع في أحيان كثيرة مع النظام الاقتصادي المشروع. ماذا يمكن عمله؟ينبغي إحداث تبديل أساسي في المثال المتبع لطريقة مقاربتنا للأمن الدولي. فالاستمرار في اعتماد التوصيفات المصطنعة والمتهالكة التي تقول إن المجرمين لا يحفزهم إلاّ الربح، وإن الإرهابيين لا تحفزهم سوى الدوافع السياسية أو الدينية، هو ما يؤدي إلى فشل صانعي السياسة وهيئات فرض تطبيق القانون وواضعي الخطط الاستراتيجية العسكرية، بوجه عام، في التعامل بشكل فعال مع الظاهرة الجديدة لشبكات الجريمة المتخطية للحدود القومية. يجب ان تبتعد الدول والمؤسسات المتعددة الأطراف عن المثال الأمني الذي ساد خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، والذي يعتبر النزاعات بين الدول القومية بمثابة التهديد الرئيسي للأمن الدولي، ويفترض، بناءً على ذلك، ان الدول قادرة على التحكّم بالأمن الدولي. فعلى سبيل المثال، قد تكون استراتيجية التحكم بانتشار أسلحة الدمار الشامل من خلال احتجاز المواد اللازمة لصنعها مصممة بصورة رائعة لكن يشوبها خطأٌ مُهلك، لأنه بدون معالجة التهديدات الإضافية التي يطرحها الانتشار المستشري للفساد، ولعمليات الشبكات الإجرامية والإرهابية فقد تولّد الدول شعوراً زائفاً بالأمن. تتطلب معالجة مسألة تقاطع كل من الجريمة والإرهاب والفساد ضمن البيئة العالمية، معالجة البيئة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية التي تولد وتساند هذه الظاهرة. ترتبط كل من تلك الشرور الثلاثة بالمشاكل العميقة العائدة لاختلال التوازنات الاقتصادية بين البلدان، وللحكومات المستبدة، ولغياب فرص العمل في العديد من مناطق العالم. إن على الحل القابل للحياة أن يدرك ويتعامل مع الشعور بالحرمان من الحقوق الذي يدفع إلى القيام بالكثير من الأعمال الإرهابية، بالأخص بين السكان المسلمين. إن توفر فرص العمل ووسائل تأمين سبل العيش أمران حاسمان بالنسبة للعديد من الناس في العالم النامي، ولكي لا يبقى، على سبيل المثال، المزارعون في أفغانستان وأميركا اللاتينية معتمدين على زراعة المخدرات لإعالة عائلاتهم. كثيراً ما تعتبر الجريمة كمسألة هامشية للإرهاب. فمنذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، تحولت موارد عديدة في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان عن عمليات مكافحة الجريمة العابرة للحدود القومية إلى عمليات مكافحة الإرهاب. قد يكون هذا التصرف خاطئا بالنسبة للقوات المسلحة ولمجتمعات الاستخبارات، ولغيرها. فالحاجة لمحاربة الجريمة ليست مسألة هامشية بل أنها قضية مركزية بالمطلق للحرب ضد الإرهاب. ربما كان بالإمكان إفشال عمل الإرهابيين الذين فجروا قطارات الركاب في مدريد في 11 آذار/مارس 2004 لو كانت سلطات السجون مدركة لما يجري التخطيط لتنفيذه في داخل مرافقها. هناك مثال عن الاستراتيجية الناجحة المتبعة ضمن دائرة الشرطة في لوس انجلوس، التي تدمج جهود قوات الشرطة المحلية مع جهود قوات تطبيق القانون الفدرالية. فمن خلال توحيد التحليل الخبير مع عمل الشرطة التقليدي، والمتابعة الوثيقة للنشاط الإجرامي داخل مجتمعاتها، حققت دائرة الشرطة في لوس انجلوس نجاحاً باهراً في تمزيق النشاط الإرهابي المحتمل، كما التنظيمات التي تمول وتسهل الإرهاب. من خلال العمل التقارني والتخفيف من الحواجز البيروقراطية، تمكن رجال الشرطة في لوس انجلوس من مكافحة الإرهاب دون استعمال أي أدوات قانونية خاصة، ودون ارتكاب أي انتهاكات للحقوق القانونية للناس. إذا استمر صعود التهديد الصادر عن فاعلين من خارج الدول، كالمجرمين والإرهابيين الذين يتخطون الحدود القومية خلال العقود القادمة، فسوف نحتاج في المستقبل إلى قيام تعاون دولي اعظم، والى قوانين اكثر انسجاماً، والى تشاطر أكبر للمعلومات الاستخبارية. وعند تطبيق سياسة مضادة للجريمة والإرهاب العابرين للحدود القومية، يتوجب علينا، بالترافق مع ذلك، احترام حقوق الإنسان وتجنب إجراءات تؤدي إلى تعزيز الراديكالية وتغذية الإرهاب. سوف تحدد طريقة إدارتنا لهذه الإزاحة للنموذج القائم بحيث نرى ونعامل المجرمين، والإرهابيين، والفاسدين على أنهم متصلون ببعضهم البعض، مدى نجاحنا في إنقاذ فوائد العولمة من سوء الاستخدام الخطر لها في حلبة الأمن الدولي.