جمع وتدوين سُنَّة النبي
وبدأت الجهود الحقيقية لجمع وتدوين سُنَّة النبي r في القرن الأوَّل الهجري حيث قام الخليفة الأُموي عمر بن عبد العزيز t بإصدار أمر البَدْءِ في تدوين الحديث، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله r فاكتبه؛ فإني خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ، وذهاب العلماء، ولا تَقْبَلْ إلاَّ حديث النبي r، ولْتُفْشُوا العِلْم، ولتَجْلِسُوا حتى يَعْلَمَ مَن لا يَعْلَمُ، فإنَّ العلم لا يَهْلِك حتى يكون سرًّا"[1].
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الآفاق، وإلى عماله في الأمصار بمثل ما كتب إلى عامله على المدينة، وكان أوَّل مَن استجاب له في حياته، وحقَّق له ما كان يرجوه، عالم الحجاز والشام محمد بن مُسْلِم بن شهاب الزُّهْرِيُّ المَدَنِيُّ؛ إذ دوَّن في ذلك كتابًا وأرسله إليه، وفيه يقول الزُّهْرِيُّ: "لَمْ يُدَوِّنْ هذا العلم أحد قبل تدويني". وفي مدى اهتمام الزهري بذلك يروي صالح بن كَيْسَانَ فيقول: "اجتمعتُ أنا والزهري، ونحن نطلب العلم، فقلنا: نحن نكتب السُّنَن. فكتبنا ما جاء عن النبي r، ثم قال لي: هلُمَّ فلنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سُنَّةٌ. فقلتُ: إنه ليس بسُنَّة فلا تكتبْ. قال: فكتب، ولم أكتب، فأنجح وضيَّعتُ"[2]t، وكان سماعه لها منه في منتصف القرن الأول الهجري[3].. وكان مما دُوِّنَ في هذا العهد صحيفة رواها التابعي همام بن مُنبِّهٍ عن الصحابي الجليل أبي هريرة
وقد بلغ الاهتمام بالتدوين في العهد الأموي مبلغًا كبيرًا، خاصَّة عند ابن شهاب الزهري (ت 124هـ)، الذي عُدَّ أوَّل من دَوَّن الحديث، وأحد أكابر الحُفَّاظ والفقهاء[4]، وهو الذي قال: "أمرَنا عمر بن عبد العزيز بجمع السُّنَنِ فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كلِّ أرض له عليها سلطانٌ دفترًا"[5].
وبعد ابن شهاب ظهر جيل جديد في القرن الثاني للهجرة، وهم أتباع التابعين الحلقة الثالثة بعد الصحابة والتابعين؛ وكان التابعون الكبار وهم تلاميذ الصحابة قد تأخَّرَت وفاة كثير منهم حتى عام 140 للهجرة، وهذا الجيل الجديد تميَّزت مجهوداتهم في التصدِّي لأصحاب البِدَعِ والخرافات والأهواء الذين وَضَعُوا في حديث رسول الله r ما ليس منه، حتى اضطرَّ الخليفة المهدي إلى تكليف أحد رجاله بتتبُّع أخبار هؤلاء الخارجين عن دائرة الدِّينِ، فأصبح ذلك الرجل يُعْرَفُ بصاحب الزَّنَادِقَة[6].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح البخاري: كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، وانظر: محمد مطر الزهراني: تدوين السنة النبوية ص 76.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 9/ 376.
[3] انظر عبد الرحمن حسن الميداني: الحضارة الإسلامية ص 464.
[4] انظر في ترجمته: الزركلي: الأعلام 7/ 97.
[5] ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 354.
[6] محمد مطر الزهراني: تدوين السنة النبوية ص 79.