كلها تخضع لمزاجه الشخصي، فهو تارة يهدد بالانسحاب، وأخرى يأمر فريقه بالاستمرار، وثالثة يعطي وعودا تتناقض مع تصريحاته بشأن حقوق الفلسطينيين. يقول الدكتور بطرس غالي، وحسب ما جاء في مذكراته الموسومة "طريق مصر إلى القدس"، إن الرئيس السادات كان مهتما بالأساس باستعادة الأراضي المصرية وعودة سيناء إلى الوطن، أما المسائل الأخرى ومنها مسالة الحكم الذاتي الفلسطيني التي وردت بمعاهدة كامب ديفيد، فكانت كلها أمور ثانوية يمكن إرجاؤها إلى حين تحقيق الأولوية الرئيسية".الأخطاء التي وقع فيها الرئيس السادات، وهي بالطبع لا تلغي إيجابياته، تم رصدها في العديد من الكتب والدراسات التي صدرت طوال عقد الثمانينات، بل إن معظمها كان يتردد في وسائل إعلام الدول والجماعات العربية المناهضة للتسوية السلمية والتي قبلت لاحقا بالسير على ذات الطريق.. فهل كان ذلك كافيا كي لا يقع "المفاوضون الجدد" في تلك الأخطاء؟ وهل استفاد المفاوض العربي من تجربة مصر على طريق التسوية السلمية مع إسرائيل؟ ثم هل شكلت هذه التجربة خلفية مساعدة لهم؟.لقد دلفت دول الطوق إلى ساحة التفاوض مع إسرائيل برعاية أمريكية بعد 11 عاما من الاتفاق المصري الإسرائيلي، وذلك في إطار ما عرف بعملية مدريد التي انطلقت في أكتوبر 1991، وكانت تقوم على فكرة التسوية الشاملة لمختلف مسارات الصراع، لكن هذه العملية سرعان ما اصطدمت بحائط الفشل، فاتحة الطريق أمام عمليات تفاوض ثنائية وسرية أسفرت أولا عن توقيع اتفاق مبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وتل أبيب في سبتمبر عام 1993 (اتفاق أوسلو)، ثم اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل في عام 1994، فضلا عن ملامسة سوريا حدود التوقيع على اتفاق ثالث كان من الممكن أن يؤدي لتسوية رابعة على المسار اللبناني. ولحسن الحظ، فقد باتت تفاصيل عمليات التفاوض العربية – الإسرائيلية متاحة للباحثين على نحو يسهل معه التعرف على حدود استفادة المفاوضين العرب مما وصف بأخطاء تجربة التفاوض المصرية التي بدأت بزيارة السادات الشهيرة للقدس المحتلة في نوفمبر 1977، وأسفرت عن إبرام معاهدة كامب ديفيد (سبتمبر 1978)، ثم اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية (مارس 1979). التجربة الفلسطينية من عرفات إلى عباس تقول التجربة إن طريق الفلسطينيين إلى عملية التسوية لم يختلف كثيرا عما سلكه الرئيس السادات؛ فالبداية كانت مفاوضات ثنائية سرية جرت من وراء ظهر الجامعة العربية وبالتحايل على إطار مدريد الجماعي في أوسلو، وأسفرت عن توقيع كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين والرئيس الفلسطيني اتفاق إعلان المبادئ المعروف باسم "اتفاق غزة – أريحا أولا"، وذلك في ساحة البيت الأبيض وبحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، تماما كما فعل السادات ورئيس الحكومة الإسرائيلية مناحم بيجين في حضور الرئيس جيمي كارتر. وكمعارضي السادات، يقول الرافضون لهذا الاتفاق أن عائده جاء أقل من الإنجاز الذي حققته انتفاضة 1987، وهم يعتبرون أن عرفات قد سلخ بقبوله للتسوية الثنائية القضية الفلسطينية من إطارها العربي والإسلامي، ومنهم من يقول إن سيطرة زعيم منظمة التحرير شبه المطلقة على مؤسسات القرار الفلسطيني في ذلك الوقت جعلته قادرا على فرض وجهة نظره الشخصية على المنظمة حتى مع وجود معارضين بارزين له مثل رئيس الدائرة السياسية فاروق القدومي. ولذا يرون أنه تعامل مع التفاوض وكأنها اختبار شخصي له، وحرص على إكمال الشوط لنهايته طالما لم تصل الأمور حد التنازل المعلن عن القضايا المتفق عليها فلسطينيا، وفي مقدمتها القدس وعودة اللاجئين. وكالرئيس السادات، كان عرفات – المعارض الشرس سابقا للسلام بين مصر وإسرائيل – واثقا من نجاح مهمته، ومصرا على إقناع شعبه بأن ما يقوم به هو الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق. وفي هذا الإطار يذكر للرئيس الراحل إطلاقه لتعبير "سلام الشجعان" لوصف عملية لم تكن بعد قد اكتملت، وإصراره على تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني. والأهم من ذلك أن عرفات كان حريصا على إملاء وجهة نظره في قضايا بعيدة تماما عن حدود معارفه، ومن ذلك مثلا قضية التجارة بين أراضي السلطة الوطنية وإسرائيل. يقول سفير مصري سابق شارك في جولة مفاوضات جرت في باريس حول هذه القضية، إن "الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني توصلا لمسودة اتفاق شبه معقولة، فاتصل رئيس الوفد الفلسطيني بعرفات لإطلاعه على التفاصيل، فما كان من الأخير إلا أن سبه ولعنه واتهمه بخيانة القضية وتساهله مع الإسرائيليين"، ويضيف السفير نفسه أن "عرفات حضر جولة المفاوضات التالية ووقع اتفاقا جديدا كان من الناحية الموضوعية أسوأ ألف مرة من سابقه، ومع ذلك أعلن للفلسطينيين أن ما حققه يمثل إنجازا على طريق السلام".الفارق البارز بين الرئيسين الراحلين هو أن عرفات لم يصادر حق الفصائل الأخرى في رفض السلام، بل إنه نجح إلى حد بعيد في الحفاظ على جسور التواصل مع معارضيه، وفي مقدمتهم حركة حماس، عاكسا بذلك قناعته بأنه سيستفيد بهؤلاء عندما تتطلب الضرورة، وهو ما حدث عندما وصلت المفاوضات التي جمعته برئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود باراك في منتجع كامب ديفيد (يوليو 2000) إلى طريق مسدود.. ربما كان هذا الفارق هو سبب انقلاب "شركاؤه" عليه، ثم إعلانهم مقاطعته ومحاصرته، قبل أن يقرروا التخلص منه نهائيا. أما خليفة عرفات (الرئيس محمود عباس)، فيرى البعض أنه يكرر أخطاء الرئيس السادات كربونيا؛ فهو فضلا عن رهانه السافر على الطرف الأمريكي، وثقته المفرطة في الجانب الإسرائيلي، مستعد لإقصاء معارضيه ولو بشكل مخالف لقواعد الديمقراطية التي أتت به لمنصبه. لكن يختلف الرئيس عباس عن الرئيس السادات على مستوى الإنجاز، فإذا كان السادات قد توصل في نهاية مفاوضاته إلى نتيجة يمكن للباحثين اليوم أن يتداولوا فيها بالذم والمدح، فان عباس – وعلى الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على توليه الرئاسة لم يحقق من مفاوضاته المتصلة شيئا يمكن تسجيله في كتب التاريخ، اللهم إلا إذا كان دوره الشهير في إبرام اتفاق أوسلو هو سقف إنجازاته. سوريا.. خطأ أوقفته إسرائيل السوريون، هم أكثر من هاجم اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية في حينها، وكانت حجتهم في ذلك، فضلا عن الدوافع القومية، شعورهم بأن الرئيس السادات قد تخلى عنهم رغم رفقة السلاح التي جمعت الطرفين في حرب أكتوبر. وقد عبرت دمشق عن غضبها بالمشاركة في قيادة جبهة "الصمود والتصدي" الشهيرة، ثم باحتضان فريق من المعارضة المصرية. على أن السوريين حين تفاوضوا، وعلى الرغم من خطابهم شبه المتماسك لتبرير إقدامهم على هذه الخطوة، لم يكونوا أفضل حالا من السادات نفسه. دخلوا إلى مؤتمر مدريد بخطاب يشدد على الحل الشامل وضرورة إلزام إسرائيل بقرارات مجلس الأمن، بل وزاد وزير خارجيتهم أيامها فاروق الشرع على ذلك بأن أخرج في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر وثيقة بريطانية تؤكد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق شامير مطلوب للعدالة