رسالة من الغربة
هل كانت السعادة بين يديك يومًا ولم تشعر بها إلا بعد أن توارت عنك؟ هل فقدت الإحساس بالأمان والحنان والدفء عندما غاب عنك حبيب لم تكن تتخيَّل يومًا أنه سيغيب؟ هل وجدت نفسك محمَّلاً بأعباء ومسئوليات وحدك، بعد أن كنت تتقاسمها مع شريك الحياة؟ أو يحملها كلها عنك؟
أظن أن هذه حال الكثير من الأزواج والزوجات الذين غاب أحدهما عن الآخر رغمًا عنه، واضطرته ظروف الحياة إلى السفر بعيدًا لشهور وربما لسنوات، بل وأقسى من ذلك غياب الأب عن أبنائه الصغار، واستمرار بكاء عيونهم الصغيرة، وسؤالهم عن والدهم الغائب رغم محاولات كلِّ من حولهم جلب الابتسامة والفرحة إلى قلوبهم البريئة؛ فهم دومًا يتذكرون أسعد لحظاتهم التي كانوا يقضونها مع أبيهم الحنون برغم قلَّتها إلا أنها كانت تساوي الدنيا وما فيها؛ حيث كان بحبه وعطفه وحنانه الغامر يروي براعمهم الصغيرة لتنمو أمامه في رعاية وأمان يراقبهم وهم ينامون ملء أجفانهم لا يحملون همَّ الغد الذي لم يأتِ بعد.
كانت الحياة تمر وبدأت تتلوَّن بألوان جديدة مع زيادة الأبناء والأعباء.. ألوان قاتمة من الرتابة والروتين والاعتياد فكلا الزوجين يدور في عجلة الحياة يقوم بدوره الذي قدَّره الله له، محاولاً تلبية رغبات كل من حوله قدر المستطاع، كل شيء أصبح مألوفًا وعاديًّا بين الجميع، ألفنا رؤية بعضنا البعض صباحًا ومساءً.
متى ستعود؟!
ولكن بعد السفر تغيَّر كل شيء، بل تلاشت الغشاوة عن عيون الجميع، فالأب ينكوي بنار الغربة الحارقة شوقًا إلى بيته الدافئ وإلى حضن أطفاله الصغار، يشتاق إلى براءتهم التي كانت تنسيه هموم الحياة، يحنُّ إلى شقاوتهم التي تحلو معها مرارة الأيام، يتذكَّر نظرات عيونهم البريئة وهي تنظر في لهفةٍ إلى ما تحمله يداه من قطع الحلوى التي كان يدخل بها عليهم كل مساء؛ ليجعلهم يعيشون أسعد اللحظات، يتمنى كل يوم أن يعود ويجد نفسه بينهم ولا يفارقهم أبدًا مرةً أخرى مهما كانت الأسباب.
آهٍ ما أقساكِ أيتها الغربة.. لا أعرف هل أتجنَّى عليكِ عندما أصفُك بالقسوة أم لا بد أن أشكرك أيضًا رغم ما نعيشه من عذاب الفراق وألمه، إلا أن كلاًّ منا عرف قيمة البيت الدافئ والسكن الهادئ والاستقرار الذي لا يناله الكثيرون.
وعندما أمسكتُ بالقلم لأكتب رسالتي إليك وجدتك ترسلين إليَّ رسالةً أبلغ منها، حروفها تهزُّ كياني، وكلماتها تزلزل وجداني، تجعلني إنسانة أخرى أُولد من جديد، أبحث عن سعادة كلِّ من حولي أعطيهم من نبض قلبي الذي يمتلئ بحبهم دون انتظار المقابل، يكفيني أن أرى ابتسامةً جميلةً ترتسم على وجوههم الغالية، بدأت أنظر للأمور من زوايا جديدة أفكِّر كيف أسعده عندما يعود وكيف أملأ البيت الصغير بالحب والحنان دومًا.. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية 159).
محنة ومنحة!
"قل لمن يحمل همًّا إن همك لن يدوم، مثلما تفنى السعادة هكذا تفنى الهموم"..
لم أعد أفكر أن سفرك الطويل محنة فقط، بل إنه يحمل في طياته الكثير من المنح والهبات الربانية، فهذا ما قدَّره الله عزَّ وجل لنا، وقدَر الله لا يأتي إلا بخير، قد يكون لحكمة ما، لا نعلمها الآن، قد يكون اختبارًا لإيماننا وصبرنا ومدى رضانا عن قضاء الله وقدره، قد يكون رسالة تنبيه لنا كي نشعر بقيمة النعم الغالية التي وهبنا الله سبحانه وتعالى إياها، ونظل نذكر فضله علينا ونشكره في السر والعلن، قد يكون ابتلاءً صعبًا، لكنَّ هناك من ابتُلي بأصعب من ذلك بكثير، وما الضير أن يكون ابتلاءً نخرج منه بعد ذلك بجزاء الصبر والذكر والشكر، فلله الحمد من قبل ومن بعد.
وهذا ما يجب أن نكون عليه في جميع أحوالنا في السراء والضراء، هذه هي حال الحياة الدنيا التي لا بد أن ندرك أنها ستنتهي في لحظة ما؛ فمهما طالت فهي قصيرة، ومهما حلَّت لا بد أن تتكدَّر، ومهما زادت فلِكَي تقلّ من جديد فلماذا نزيد من كدرها بالهموم والأحزان؟ ولماذا نسهم في نهايتها بالفرقة والشقاق والعناد؟ ولماذا تتفرَّق بنا السبل في البحث عن سعادة وهمية، وهي أقرب ما تكون إلينا، بل هي في حبنا وعطائنا لكل من حولنا من أهل وأحباب؟!
إلى الزوجين..
كلمة إلى كل زوجين: مهما طالت بينكما السنين، وقلَّ الحنين، وعاش كل منكما الألم الدفين.. هناك دومًا في قلبيكما مكان للحب والتسامح والرغبة في إسعاد الآخرين، حاوِلا من جديد اكتشاف الحياة، تذكَّرا كل اللحظات الجميلة التي مرَّت بكما، كل أفراحكما معًا.. اصبرا اغفرا اهجرا الحزن والنبش في قبر الماضي أو الخوف من غائب لم يأتِ بعد.
إن السعادة قريبة منكما، إنها في قلوبكما، تنتظر أن تخرج لكل مَن تحبونه، تعلما الرفق واللين والعطف (البر شيء هيِّن، وجه طليق، وكلام ليِّن) ليملأ كل منكما قلبه بحبِّ الأبناء والبحث عن سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة بشتى الطرق أدركا الحياة قبل أن تنتهي ومَن يظن أنه سينال منها فوق ما يريد فهو واهم. إنها اختبار احرصا على النجاح بل والتفوق فيه، احرصا على نيل أعلى الدرجات في الجنة معًا ولا تنولا لإبليس مراده فالمقربون عنده هم الذين يبذلون قصارى جهدهم لتفريق شملكم وقتل سعادتكم وهدم بيتكم الدافئ الجميل.
ليعش كل منا الحب مع زوجه وأبنائه وأهله ليعش كل لحظة من حياته في سعادة ورضا يسعد كل منا الآخر يعطيه من نفسه وقلبه وكيانه قدر ما يستطيع يشعر كل زوج بشريك حياته ورفيق عمره يحتويه يسمعه يصبر عليه يدرك أنه أمانة عنده سوف يسأل عنها يوم القيامة فما بالنا لا ندرك كل هذه النعم قبل فوات الأوان؟