مقصلة الأخلاق:
الدكتور عادل عامر
من المعلوم أن المنهج الإلهي يقوم في سائر أحكامه على أساس خلقي، وأنه ضَبَطَ الأخلاق وحددها، ووضع لها حارسًا من داخل الإنسان وخارجه، وبنى عليها الكيان الفردي والاجتماعي في أمته، وتوسع في مدلولاتها وآفاقها، وبهذا تفرد المنهاج الإلهي، وكان منطقيًّا مع وجهته في الاعتقاد، ومتسقًا مع ما قرره عن مهمة الوجود الإنساني، ووظيفة الخلافة في الأرض. البشرية تدخل التيه: وحينما كانت القوانين قديمًا تُستمد من الأديان؛ كانت تشيع فيها رائحة الأخلاق، وتتقيد أحكامها بالاعتبارات الخلقية، حسب قربها أو بعدها من الدين الصحيح، ولكن الفلسفات الوضعية والنزعات الإلحادية المادية انتهت بالإنسان حديثًا إلى مأساة من أكبر مآسي الإنسانية، والتي ساهمت بنصيب وافر في كوارثها وأزماتها المعاصرة، وذلك حين عُزِل القانون عن الأخلاق السامية، ودأب أصحابه على فلسفة ذلك بدعاوى فارغة كاذبة، مثل ادعائهم عدم انضباط القيم الأخلاقية، أو عدم القدرة على تحديدها تحديدًا قانونيًّا دقيقًا، أو بدعوى صيانة الحرية الشخصية، وغيرها من الدعاوى التي تنبثق من الأصول التي يعتنقونها، ونظرتهم للكون والحياة، ومهمة الإنسان فيهما.
مقصلة الأخلاق: ويكاد أصحاب القانون الوضعي يتفقون الآن على مثل هذه الأقوال: (القانون لا يحمي بطريق مباشر إلا النذر اليسير من قواعد الأخلاق، وهو القدر الذي يؤثر منها في كيان الجماعة، أو في مصلحة جوهرية من مصالحها، أما باقي قواعد الأخلاق فهي بعيدة عن القانون، بمعنى أن القانون لا يملي على الناس احترامها)، (القاعدة الخلقية إذا بلغت من الأهمية بحيث تؤثر في كيان الجماعة، أو في مصلحة أساسية من مصالحها؛ رأيناها تنفذ إلى دائرة القانون، فتتضمنها قاعدة من قواعده، فالكذب تحرمه الأخلاق، والقاعدة ألا شأن للقانون به، ولكن إذا كان من مقتضاه أن يهدد مصلحة أساسية للجماعة، كما إذا صدر أثناء أداء الشهادة أمام المحاكم، بسبب ما قد يترتب عليه من الظلم وإهدار الحقوق؛ في هذه الحالة نرى القانون نفسه يتضمن تحريم الكذب، وكذلك الحال بالنسبة إلى العلاقات الجنسية غير المشروعة، فالأخلاق تنبذها، في حين أن القانون لا يحرمها في الأصل، ولكن إذا هددت كيان الجماعة، أو مست مصلحة جوهرية من مصالحها تدخل القانون لتحريمها، وهذا هو الشأن في هتك العرض، الذي يتضمن استعمال الإكراه والعنف، وفي الزنى الذي يقع من أحد الزوجين؛ لما فيه من تهديد لكيان الأسرة، ومن خلط الأنساب) [كتاب نظرية القانون فقرة 79]. وبذلك يقتل القانون الأخلاق البشرية العليا؛ حين يحصر نفسه في دائرة ضيقة خانقة، ويجعل هدفه الأهم هو حفظ الأمن العام، أو حماية النظام القائم قبل كل شيء، وهو بذلك يقتل نفسه أيضًا، حيث لا يكون له في النفس أساس راسخ يملي احترامه والتزامه، وهذا أحد الأسباب الرئيسة في كثرة المخالفات، وانتهاك القوانين، في ظل هذه المعاني التي طبعت القانون بطابع نفعي ساقط، وجعلت معياره الخلقي يقوم على المصالح الاجتماعية فقط، ولو كانت دنيئة ساقطة، لا على الحقائق في ذاتها التي تؤثر في صميم الفرد والمجتمع، وتنعكس بالخير أو بالشر على كل جوانب حياتهم. معيار متميع: والمصالح الاجتماعية التي يقوم عليها القانون كلمة مطاطة، تخضع للأهواء ولنزغات الضمير الاجتماعي أو السياسي وما شابه، وهو ضمير متقلب مطواع للفساد السائد في بيئته، ما دام لا يخضع لمعيار موضوعي ثابت؛ ولذلك يتناقض القانون الوضعي مع نفسه دائمًا حين يزعم أنه يحمي مصالح الجماعة، ثم يترك أنكر الفواحش تسري في جسد الفرد والمجتمع كالخمر، والربا، والزنى الذي لا يجرِّمه إلا من زاويته المصلحية، لا الأخلاقية. ضرورة حياتية: وإذا ما نظرنا إلى المنهاج الإلهي للبشر فسنجده قدم نموذجًا لمجتمع بشري يقوم على أطهر الأخلاق، وشريعة تشتبك قواعدها وفروعها بكل حسن من الفضائل والآداب، ولا يزال هذا المنهاج سباقًا تقدميًّا تأتي آيات الآفاق والتجارب، والبحث والكشف مصدقة له، وتجري القوانين لاهثة وراء خطوه المعجز وإعجازه الفذ، فتقدم للناس بعض ما قدمه، وكانت تستنكره. ودليل ذلك أن الأنظمة العالمية المختلفة توسع الآن باطِّراد ـ على ضوء تجاربها المريرة ـ دائرة القانون، لتضم تشريعات ذات صبغة أخلاقية واضحة، كان أساطين القانون من قبل يستهجنون التدخل فيها، وهم يعدونها الآن تقدمًا وارتقاءً: (كلما تقدمت الجماعة، وسارت شوطًا أبعد في طريق المدنية؛ ضاقت شقة الخلاف بين قواعد الأخلاق وأوامر الدين من ناحية، وبين قواعد القانون من ناحية أخرى، فمساعدة العامل، وعدم إرهاقه، وتقديم المعونة له إذا ما عجز عن عمله لمرض يلم به أو عاهة، أو شيخوخة، كل هذه واجبات تحتمها علينا الأخلاق الحميدة، وقد تولى القانون الآن فرضها علينا) [نظرية القانون، فقرة 8]. إن هذه النتيجة لهي دليل بالغ على أهمية الأخلاق للحياة البشرية، وضرورة قيام الشرائع والقوانين على أساسها، وهي نداء جهير يصيح بالبشر أن استجيبوا لربكم، فهو أرحم بكم من أنفسكم، وأعلم بكم من فلاسفتكم وشارعيكم، وأن اتبعوا دينه الحق إن أردتم سعادة الدنيا والآخرة. ثم هي دليل على عجز البشر عن الإحاطة بمصالحهم، وعدم قدرتهم على وضع قانون كلي لا يخضع للتجارب والخلافات في الأمور الأساسية؛ لأنهم لم يستطيعوا بعد ـ ولن يستطيعوا ـ تحديد عناصر الثبات والتغير التي تحكم هذه الفطرة الإنسانية العجيبة، ولا تحديد ما يناسبها من قيم وأحكام لتقودها في الطريق السوي دائمًا. ولقد كان الجهل بهذه الحقيقة أحد أسباب الغرور والتطاول لدى دعاة الإلحاد والمادية، فلما صدمتهم النتائج بعد طول التجارب، وظهرت شقوة الإنسان بعد أن تخربت فطرته على أيديهم وبأفكارهم؛ عادوا اليوم أكثر تعقلًا واعترافًا بالحقائق. وفي كتاب "الإسلام يتحدى" تلخيص جيد لهذه الحقيقة، حيث جاء فيه: (إن الإنسان لن يستطيع الكشف عن أساس واقعي للتشريع، ورغم الجهود الجبارة التي بذلت في هذا الحقل منذ مئات السنين؛ فإن الأمر يزداد يومًا بعد يوم شعورًا بالمرارة وخيبة الأمل بين رجال التشريع؛ لأن الفلسفة الحديثة قد فشلت في بحثها عن أهداف الدستور).