المعركة التي دارت في أعقابها الاعتصامات
الدكتور عادل عامر
تحدث الكثيرون من الصحفيين والكتاب المصريين قبل السادس من أبريل على أن ذلك اليوم سيكون يومًا للغضب من حكم مستبد وفاسد وتابع، وتوقعوا أن ينجح الإضراب هذا العام كما نجح العام الماضي وأن يشكل ذلك أساسًا لإزاحة النظام الحالي عن الحكم بالطرق السلمية، وبنوا آمالهم على أن هذا اليوم الذي هو ذكرى مرور عام على خروج آلاف من المواطنين استجابة لنداء الإضراب العام، وفيه أبلت مدينة المحلة الكبرى، تلك القلعة الصناعية ذات الوجود العمالي الكثيف، بلاء حسنًا في الإضراب والتظاهر والاحتجاج حيث سقط عدد من أبنائها شهداء مع عشرات المصابين والجرحى برصاص الشرطة، وضربات قوات الأمن، واعتداءات بلطجية الحزب الحاكم، وكمائن مليشيات رجال الأْعمال. وتوقع الكثيرون أنه مع تزايد واتساع الدعوة للإضراب هذا العام واتخاذها طابعًا وطنيًا سياسيًا عامًا، ومع اشتداد الأزمات السياسية والاقتصادية للنظام المصري فإنه من الممكن أن يكون نجاح إضراب هذا العام أكبر، إلا أن ما حدث كان فشلاً كاملاً ومر اليوم بهدوء وسط سيطرة الأمن على حركة الشارع المصري. يبدو أن الكثيرين لا يفهمون طبيعة النظام السياسي المصري وطبيعة تكوين القوى السياسية العاملة على الساحة وخاصة الأحزاب والقوى الجديدة مثل "كفاية" ثم طبيعة تكوين "الإخوان المسلمون". فالأحزاب السياسية الموجودة ما هي إلا ديكور فقط، وهي تكوينات نفعية انتهازية نخرها السوس وما بقي من نخر السوس استماله النظام واشتراه بالمال والتعيين في مجلسي الشعب والشورى وتقاسم المصالح المشبوهة. وبالتالي فإن ما يصدر عن الأحزاب ما هو إلا بيانات وصحف وتصريحات بلا روح ولا معنى وبلا سند شعبي. أما الحركات الحديثة مثل "كفاية" وغيرها فإنها تمثل تجمعات فئوية فشلت في أن تضرب بجذورها في الشارع المصري وأن تكتسب الشعبية والتأييد من فئات وطبقات المجتمع المختلفة، لأن قادة هذه الحركة وكثير من المنتمين إليها إنما هم من فلول اليسار الغابر الذين يخاصمون الدين والهوية، وما زلنا نذكر تصريحات فاروق حسني وزير الثقافة ضد الحجاب والمشايخ والمعركة التي دارت في أعقابها، وقد انحازت حركة "كفاية" إلى جانب وزير الثقافة ضد عموم الشارع المصري، وأصدرت بياناً شديد السذاجة، دافع عن الوزير وهاجم الأفكار الإسلامية وارتدى ثوب التنوير على الأرضية اليسارية الساقطة، وقد أدى هذا البيان إلى استقالة سبعة من أكبر رموز الحركة احتجاجاً على صدم الحركة لمشاعر عامة الشعب المصري وانحيازها إلى الوزير الذي انصرف عنه الجميع، حتى أقطاب الحكومة والحزب الوطني نفسه. وقد كان هذا التصرف غريباً وشاذاً، فكيف لحركة تسعى لاكتساب الشعبية وغرس بذورها داخل المجتمع المصري، كيف لها وهي تريد ذلك أن ترتكب هذه الخطيئة وتهاجم الرمز الإسلامي، وتنحاز إلى الحملة العلمانية الشاذة التي مثلتها تصريحات الوزير؟. لقد أكد موقف "كفاية" أن هذه الحركة تحمل في طياتها عوامل انهيارها، لأنه تأكد أنها تخاصم الثقافة الإسلامية، وتنحاز للمقولات التقليدية لتيارات اليسار، وفلول الشيوعية، وأنها وأخواتها أرادوا أن يقودوا حركة التغيير في مصر من أرضية غير إسلامية فكان مصيرهم جميعًا هو الفشل الذريع. "الإخوان المسلمون" هم الفصيل ذو الشعبية والتنظيم والإمكانات التي تمكنهم من مواجهة النظام سلميًا وقيادة الشارع المصري عبر تصعيد المظاهرات والإضرابات، ولكن هناك قيدين أساسيين يقيدان حركة الإخوان ويمنعانها من ذلك. القيد الأول قيد تاريخي لا يستطيع الإخوان الفكاك منه وهو التردد والخوف من اتخاذ قرار المواجهة مع النظام السياسي حتى ولو بالطرق السلمية، وقد لازمهم هذا التردد والخوف منذ أيام حسن البنا، رحمه الله، وحتى الآن، فقد كانت إمكاناتهم اكبر بكثير من إمكانات جمال عبد الناصر والضباط الأحرار لكن عبد الناصر اتخذ القرار وتحمل تبعاته، فإما أن ينجح ويحصل على الحكم وإما أن يفشل ويلاقي الموت أو غياهب السجون لكنه اتخذ القرار ونجح، والإخوان يبررون ترددهم وخوفهم بان الجماعة كبيرة وفي حالة الفشل ستلاقي الأهوال التي لاقتها بعد أحداث عامي 1954 و 1965. والقيد الثاني هو أن الجماعة تريد أن تعمل وحدها وإذا نسقت مع الآخرين فإن التنسيق يكون شكليًا، ونست أن بإمكانها أن تنسق وتقود حركة الشارع وتتخذ القرار وساعتها ستكون مجرد فصيل مشارك في التظاهر والإضراب وبالتالي تنتفي حجة النظام إذا حاول استهداف الجماعة وحدها، كما سيكون الشارع والقوى السياسية كلها معها لو استهدفتها الحكومة. التغيير في مصر ممكن بعد أن أصبحت المشكلات السياسية والاقتصادية والمعيشية والتعليم والصحة والخدمات في قمة السوء، وبعد أن زاد التضخم وارتفعت الأسعار وزادت البطالة وانعدمت فرص العمل، وبعد أن اتسعت الفوارق بين الطبقات بشكل مخيف يهدد الأمن الاجتماعي، وهذا التغيير لن يفلح إلا على يد قيادات جديدة غير محملة بمشكلات وأطماع سياسية وطموحات انتهازية ولا يحكمها الخوف والتردد، وقد نفاجأ بأن العمال هم الذين قرروا بدء الصراع وربما غيرهم، وساعتها لن يكون هناك مكان لهذه الأشكال الخشبية التي تمارس العمل السياسي، وإن كنا نود أن يكون الإسلاميون هم قادة هذا التغيير السلمي من خلال الانفتاح على المجتمع الأهلي وتكويناته وبنيته الداخلية، ومن خلال قيادة منظمات العمل الأهلي والعمالي والطلابي، ومن خلال الانسياح وسط المجتمع وخدمته بمثالية والتفاني من أجله وضرب المثل بالقدوة الحية. انتهى عصر العمل المسلح والعنيف والسري، وأصبح لا مستقبل إلا للعمل السياسي والثقافي والاجتماعي والفكري والإعلامي العلني، المنفتح والمثقف وغير المنغلق، فهل يتقدم الإسلاميون بثقافة جديدة وفكر جديد ونفسية جديدة وروح جديدة لملأ هذا الفراغ قبل أن يملأه غيرهم؟