وحمايتها من العدوان المستمر إستمرار الصواعق فى إعصار طاغ أهوج، وبذلك تنخدش إنسانيته وقد تنكسر، وهو فاقد لحقه فيها، مرهق للحصول عليها والإحتفاظ بها. والمجتمع الصحى يكوّن أفراده ويقيّم أعضاءه على أساس الصدق فى القول والصدق فى الفعل، وعلى ضرورة الوفاء بالعهود والإلتزام بالعقود.وعلى أن يكون كل فرد فيه وكل عضو به أمينا على نفسه وأمينا على غيره، له حق مشروع فى أن يحقق أهدافه وأغراضه المشروعة، دون إفتئات على الغير أو انتقاص لأقدارهم أو انتهاب لأموالهم. أما المجتمع الملوث فإنه لا يكوّن أفراده ولا يقيم أعضاءه إلا وفقا لقاعدة الغاية تبرر الوسيلة (أو كما يقال فى المثل الدارج: اللى تكسب به العب به.أى إنه عليك أن تلعب بما يحقق لك الكسب، مهما كان هذا الكسب حراما أو كانت وسيلته غير شرعية أو غير إنسانية). وفى هذا الجو الذميم لا يكون وفاء بعهد ولا التزام بعقد، ولا يكون أى فرد أمينا على نفسه ولا على غيره، ويكون دائم العمل على اغتنام الفرص واهتبال السوانح والافتئات على الغير ولو كان أخاه، وانتقاص الأقدار مهما علت وانتهاب الأموال ولو غُص بها حلقة أو دمى بفعلة غيره. المجتمع الصحى يفرض على كل فرد، بل إن كل فرد فيه يفرض على نفسه، واجب العمل المستمر الدائم، بإتقان لا إهمال فيه، وجدية لا عبث بها، وشرف لا يقبل الرشوة أو العطية. فبالعمل تتحقق الصحة النفسية والسلامة العقلية والكفاية الذاتية والصلابة الشخصية. العمل اليدوى أو العمل الذهنى مثمر فعال، للفرد والجماعة سواء بسواء ؛ وهو يعنى أن يكون الفرد منتجا بنفسه، لا يعتمد فى حياته وفى معاشه على الريع، والريع هو ما يتحقق دون عمل، من عوائد عقارية أو من ثروات طبيعية أو من أرباح الأسهم والسندات، أو من الوساطة فى المعاملات أو بين الأشخاص (السمسرة) أو مما شابه ذلك وماثله وشاكله. أما المجتمع الملوث فإنه يحتقر العمل ويستقل نواتجه ويسترخص عوائده، فيعنى غاية العناية بالريع، ويحتفى أكبر الإحتفاء بالوساطة (السمسرة)، ويفتخر أشد الإفتخار بالبطالة.وهذه البطالة تورث الكسل والضياع، وتخلف التفاهة والغثاثة، وتؤدى إلى الضياع والكلال ؛ فيصبح الشخص والمجتمع من ثم عبيدا لمن يخططون وسخرية لمن يعلمون. المجتمع الصحى يؤكد ويشدد على الأخلاق، والتى قوامها المطابقة بين الأقوال والأعمال، وأساسها الإيثار والتضحية، لا الأثرة والأنانية. لسان حال الفرد فيها يردد الآية القرآنية (يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة) كما يردد قول الشاعر :
فلا هطلت على ولا بأرضى سحائب ليس تنتظم البلادا
أما المجتمع الملوث فإنه يتنكب الأخلاق صراحة أو ضمنا، فإما أن ينكرها تماما وإما أن يتفادى الكلام عنها ويتغاضى عن أى ذكر لها. والأسوأ من ذلك أن يقلب المعايير ويخلط الموازين ويفسد المعانى، فيسمى الظلم صيانة للمجتمع، ويدعى أن التقلب على كل الموائد تطور فى مفاهيمه، ويزعم أن الإساءة هى الحماية لمن أسىء إليه، ويعتقد أن الفن شطارة، وأن الغدر وعى، وأن الفساد سعة أفق، وأن الخيانة "تفتيح مخ"، وأن الرشوة "تنطيق رزق".وهكذا. فى المجتمع الصحى تكون الأخلاق الواضحة المستقيمة فرضا ذاتياً على كل فرد، لا يستطيع أن يحيد عنها أو ينحرف منها، ولا يمكن أن يدفع إليها أو أن تفرضها عليه قوة.وتكون الأخلاق من ثم لكل الناس، فى كل زمان وفى أى مكان، ذلك لأن استثناء فرد واحد من النظام الأخلاقى، يعنى التعامل معه بغير أخلاق، وهو ما يؤدى إلى تحطيم النظام الأخلاقى تماما، وتقويض قواعده واحدة بعد أخرى، مما ينتهى بالنظام الأخلاقى إلى الفوضى اللاأخلاقية. أما فى المجتمع الملوث، فإن الأخلاق تتحلل إلى وعود بغير تحقيق، وعهود بغير تنفيذ، ومسالك ملتوية، ووسائل متدنية، وأساليب قذرة، وأفاعيل متسفلة. فإذا كانت، فإنها تكون أشبه بطرائق العصابات التى تحترم ما تتفق عليه، ولو كان القتل أو السرقة أوالإبتزاز، لأنها تحمى بذلك مكاسبها وتصون به جماعتها ؛ حتى إذا ما حان الحين أو وقع المحظور أو ظهر التربص، انقلب كل على غيره، فخان وقتل وفسق، وهو يزعم أنه بما فعل فإنه يحمى نفسه ويعلى راية الحق، وبئسها تلك حماية وراية! الفرد فى المجتمع الملوث أنانى وعلى أثره (أى يؤثر نفسه) وليس غيريا ولديه إيثار (أى يؤثر على نفسه)، لسان حاله، وحال المجتمع يردد قول لويس الرابع عشر: بعدى الطوفان (Apres Moi Le Deluge)، وقول الشاعر : إنما دنياى نفسى، فإذا هلكت نفسى، فلا عاش أحد وديدن المجتمع ما يردده الشعراء فى هذا الخصوص، وذلك المعنى
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه تهدم، ومن لا يظلم الناس يُظلم
والناس أسدُ تُحامى عن فرائسها إما عقرت وإما كنت معقورا
وهو من ثم مجتمع يقوم على التظالم والتقاتل والتعاقر، فلا يكون فيه سلام أبدا، ولا هدوء قط. المجتمع الصحى لا يعيش فى اللحظة و يتبدد فى الحاضر ولا يتمدد فى المكان ؛ لكنه مع الوجود فى الحاضر، يستشرف المستقبل ويتبصر آفاقه، ويكون وهو فى مكان محدد، مستوعبا كل مكان غيره مستخلصا ما فى أى مكان آخر. بهذا يضيف إلى وجوده كل وجود، ويثرى حياته بكل حياة، ويمكنه التوجه إلى التخطيط المستقبلى الذى قوامه امتداد الزمان إلى آفاق بعيدة فى المستقبل، وإمتداد المكان إلى أبعاد ممتدة إلى بلاد أخرى قريبة أو بعيدة. أما المجتمع الملوث فهو أسير اللحظة سجين الحاضر حبيس مكان محدود، لا يرى المستقبل ولا يدركه ولا يهتم بوجود مجتمعات أخرى ولا يفهمها. ومن ثم يضيق أفقه ويسوء فهمه ويضطرب تقديره، فينحصر فى وقت محدد وفى مكان مقيد، ويتصور أن من يترك مكانه يُهان ومن يرى أبعد من وقته يختل، وأن من يخطط للمستقبل إنما يتحدى إرادة الله (يقال فى اللهجة الدارجة إنه يقاطع على إرداة الله، أو يفوّل على نفسه، أى يجلب عليها فألا سيئا). المجتمع الصحى يعلّم ويعود أبناءه (وبناته) على وضوح القول وصحة التعبير وعفة اللسان. فيكون كل فرد واضحا (غير ملاوع) فى قوله، يستطيع من كثرة ثقافته وفرط قراءته وحسن استيعابه للأحاديث الإجتماعية، أن يعبر عن نفسه وعن أى قول يقوله تعبيرا صحيحا، لا تزيد فيه ولا قصور به ولا اضطراب يخالطه. وهو إلى ذلك، لا يلجأ إلى الألفاظ الضخمة البذيئة ليصف واقعة أو شيئا أو شخصا. بهذا نشأت تعبيرات كثيرة وجديدة، معبرا فى غير تبذل، وموحية فى غير تدن، إذ يقال عن الغبى إنه ليس ذكيا بدرجة كافية، وعن المتفاخر إنه ليس متواضعا، وعن صاحب السلوك السيىء إن أخلاقه ليست فوق مستوى الشبهات، وعن العاهر إنها بائعة هوى، وعن القوّاد إنه سمسار لطافة. وهكذا من تعبيرات تدل على المعنى دون أن تخدش الحياء أو تتضمن السب والقذف والشتم. بهذا يتسامى المجتمع بأقواله ويتعالى بتعبيراته، ولا يحدث خلط أو اضطراب أو سوء تفاهم، نتيجة غموض القول أو خطأ الكلام أو خطأ التعبير، إذا ما كان المتحدث سيىء التعبير أو كان فاسد الفهم أو كان ناقص المحصول اللغوى. أما المجتمع الملوث فإنه يكون على العكس تماما،أفراده جميعاً إلا قلة قليلة، لا تحسن القول ولا تجيد التعبير لا تعتاد عفة اللسان. ومن ثم فإنه يكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يقول أحدهم قولا واضحا أو صائبا، ومن المستبعد دائما أن يعبر عن نفسه تعبيرا سليما، وأن يتكلم دون أن يستعمل السباب وعبارات الشتم، حتى وهو يمدح (إذ من الدارج أنه يقول فلان هذا شاطر إبن...). فى هذا المجتمع لا يفهم أحد أحدا، ولا يعرف فرد فردا، ولا يدرك شخص شخصا، بل يكون كل واحد منهم محصورا فى نفسه، ما دام أنه غير قادرا على التعبير عنها، وفض مضمون ما يريده إلى غيره فى وضوح وجلاء. هذا بالإضافة إلى أن الأحاديث تجرى دائما على الرواسم (الكليشيهات) المحفوظة والمتداولة كأنها مصكوكات، ولا يستطيع المتكلمون أن يخرجوا عنها، لعدم القدرة على التعبير، ومخافة الإنزلاق إلى الخطأ وسوء الحديث وبذىء اللفظ، فيكون الحديث (إزيك؟ إزى الحال؟ كله تمام؟ الحمد لله. وهكذا). فى المجتمع الملوث تسود ثقافة الهجاء ووجهها المقابل من افتخار. فالفرد والجماعة تمدح نفسها بكثرة، فيما يجوز وما لا يجوز، بما هو معقول وبما يتجاوز نطاق المعقول، على نحو ما قال الشاعرالجاهلى : إذا بلغ الرضيع لنا فطاما تخر له الجبابر ساجدينا
وفى الوقت نفسه فإنها تكون دائمة الهجاء للغير، دائمة السباب للخصوم، دائمة الإهانة للناس عموما ؛ على لسان كل فرد منها ألفاظ الفحش والتجريح والإساءة، تقال بمناسبة وبغير مناسبة. ويقع فى هذا الشرك زعماء، هم أبناء ثقافة الهجاء، فيطلقون البذاءات والإهانات للدول ورؤسائها، مما يكلفهم ويكلف بلادهم أعباء ثقيلة وطويلة، نتيجة قول قيل على عواهنه، دون حساب أو تقدير،إهانة لهذه الدول أو تلك، أو سبا لهذا الرئيس أو ذاك الملك. هذان مجتمعان متقابلان متعارضان. ولا يكون المجتمع واحدا منها مائة فى المائة، إنما تغلب على أحد المجتمعات خصائص الصحة وتغلب على الآخر خصائص التلوث. بينما تُعنى الحكومات المحلية والمنظمات الدولية بإزالة أسباب التلوث المادى، فإن هذه وتلك تغفل عن آثار التلوث الإجتماعى فلا تتصدى لها ولا تعمد إلى إزالتها. لذلك تبقى المجتمعات الملوثة فى اضطراب وإختلاط، وسقوط وتدن يمنعها من أى جهد تنموى، ويشل فاعلياتها – فلا تتقدم قط ولا تنحصر أبدا. والأسوأ من ذلك أن يشقى بها ذو الأخلاق وطالب العدل وناشد الإستقامة. وفى هذا يقول الشاعر:
إذا كانت أمور الناس عوجا ينال المستقيم بها عذاب !