مشروعية الجماعات الإسلامية
الدكتور عادل عامر
بدلاً من أن يكون أهل العلم والفتوى مثبتين لأفكار الناس وعقائدهم، رادين على الشبهات التي يثيرها المشككون، أصبحنا نرى القائمين على الفتوى في بلادنا هم الذين يثيرون الشكوك بين الناس ويقذفون بالشبهات في عقولهم وقلوبهم. ومن هذه الشبهات الفتوى التي أصدرت دار الإفتاء المصرية مؤخرًا، ردًا على سؤال عن حقيقة الجماعات الإسلامية المعاصرة وحكم الانتماء إليها، تنص الفتوى على "عدم جواز الانتماء إلى الجماعات الإسلامية، ولا السير على أفكارها، لأنها تخالف الشرع الحنيف جملة وتفصيلاً". أضافت الفتوى أن هذه الجماعات "اعتبرت أنفسها أنظمة مستقلة ولها إمام، وعقدت الولاء والمبايعة لقوادها، وكان هذا هو أساس الانتماء والولاء، فهم بكل هذه الأشياء خرجوا عن جماعة المسلمين التي أمرَنا الله عز وجل بلزومها وعدم الخروج عنها، وهم السواد الأعظم من المسلمين". ويستمر اللاعلم واللامعقول حينما تضيف الفتوى أن " "كلٌّ يريد أن يستقطب جماهير الناس خلفه، وبدأت بعض هذه الجماعات في إنشاء جناح عسكري لها، وخرجوا على حكومات تلك الدول الإسلامية التي أقرت الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسيا للتشريع في البلاد".واعتبرت الفتوى هذه الفرق والطوائف التي ظهرت في العصر الحديث امتدادًا لإحياء أفكار الخوارج: "فهذه الجماعات التي تدعي لأنفسها التأهيل لإقامة الدين وتطبيقه دون غيرها زورا، لا يجوز الانتساب إليها ولا السير على أفكارها، لأنها مخالفة للشرع الحنيف جملة وتفصيلا". ومن أول وهلة يتضح أن الفتوى موجهة توجيهًا حكوميًا، وأن الهدف منها هو خدمة الحكومة ومصالح النظام الحاكم، وأن من صاغ هذه الفتوى ابتعد عن العلم والاجتهاد ووضع نفسه في دائرة الشبهات وخدمة السلطان الذي يخاف هذه الجماعات ويسعى للحد من تنامي شعبيتها، من خلال اتهامها بالخروج على الحاكم، وبيعة قوادها على مقاتلة حتى إخوانهم المسلمين إذا طلب منهم ذلك. ولأصحاب هذه الفتوى المشبوهة نقول: إن العلماء الثقات المحققين على أن إقامة الجماعات الدعوية، والانتظام فيها على أساس الطاعة لأمير، واجب من الواجبات الشرعية في هذا الزمان، فمن تخلف عنه فهو آثم. أن أية جماعة من جماعات البر والتقوى والخير والدعوة، إن التزمت الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل لصالح الإسلام والمسلمين والدعوة لمكارم الأخلاق، فهي جماعة مشروعة، وأما حكم هذا التجمع فهو إما واجب حتمي إذا دعت الحاجة إليه لنصر الدين، أو أنه دعوة إلى الخير لا تتحقق إلا بالاجتماع أو إنكار منكر لا يحصل إلا باجتماع، أو دفع شر وضرر عن الأمة لا يتحقق إلا باجتماع. وأهل العلم أيضًا على أن الصورة المثلى لعودة الخلافة من غيبتها أن يكون أهل الحل والعقد من أهل السنة والجماعة مجتمعين على مطاع هو أمثل أهل العلم منهم، للقيام بالمقدور عليه من فروض الكفاية؛ فإن تعذر ذلك استقل كل أهل بلد بعالمهم، إلى أن يتيسر جمعهم، وإن كان لابد لهم أن يأخذوا بالأسباب التي تؤدي إلى جمعهم، لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والعلماء على أنه لا منازعة في مشروعية الاجتماع على الخير والتعاقد عليه، والتزام الطاعة للقائم عليه في غير معصية، وذلك بشروط ثلاثة: الشرط الأول: ألا يتضمن تحزبًا على أصل بدعي يخالف أصول أهل السنة والجماعة، فإن مثل هذا التحزب هو أساس نشأة الفرق الضالة. الشرط الثاني: ألا يقصد به منازعة السلطان المسلم - إن وجد- والسعي في نقض بيعته وحل عقدة إمامته؛ وذلك للأدلة التي تحرم النكث وتلزم بالأئمة وتوجب الطاعة لهم في غير معصية، وتنهى عن منابذتهم إلا بالكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان. الشرط الثالث: ألا يعقد الولاء والبراء على أساس الانتساب إلى هذا الاجتماع؛ لأن معقد الولاء والبراء هو الكتاب والسنة على رسم منهاج النبوة لا غير. وعلماء الإسلام على أن اجتماع الناس على طاعة، وتعاقدهم على الوفاء بها، ودعوة الناس إلى ذلك، إنما هو من جنس التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك لينتظم بها أمر الدعوة، ويجتمع بها شمل العاملين للإسلام, وتكون هذه التجمعات أجزاء من جماعة المسلمين, ويتحدد سلطان قياداتها في ضوء ما اتفق عليه، ويحسن أن يكون العهد مفصلًا لما ينشئه من حقوق, وما يرتبه من التزامات. وهذه التجمعات على خير ونفع ما دامت لم تقم إلا لهدف صالح، ولم تجتمع على بدعة أو ضلالة، ولم تختـزل الإسلام في أطروحتها ورؤيتها، والعمل للإسلام إطار أوسع وأشمل يمكن أن يتحقق من خلال هذه الوسيلة ومن خلال الجهود الشخصية والأعمال المؤسسية العامة، وفي كل خير.
"