الإعجاز في القرآن الكريم
الدكتور عادل عامر
أثار المستشرقون والمنصّرون وأعداء الإسلام الفكريين والعقائديين الكثير من الشبهات حول إعجاز القرآن الكريم نظراً لأهمية هذا البحث وعظمه الأهداف التي يحققها. فالهدف الأعظم من وراء البحث في الإعجاز القرآني هو التأكد واليقين من أن القرآن الكريم ليس صنعة بشرية وإنما هو وحي الهي، سواء كان الإعجاز هو إعجاز لغوي وبلاغي أو إعجاز علمي، لكن حساسية القوم زادت بعد أن تعقدت العلوم وتنوعت وتعمقت ومع هذا التنوع والتعمق يثبت العلماء المسلمون كل يوم إعجازًا قرآنيًا جديدًا في الطب والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا .. الخ، بما يؤكد أنه وحي من عند الله وليس من وضع محمد صلى الله عليه وسلم كما يحلو لهؤلاء الحمقى والمرضى أن يرددوا. النقطة الأساسية التي يستند إليها الإعجاز القرآني هي عدم قدرة العرب علي معارضته رغم تحدي القرآن الكريم لهم مرة تلو الأخرى. ولكن هل أنّ العرب حقيقة لم يكونوا قادرين علي معارضته؟ أو أنّ أسباباً أخرى خارجية هي التي منعتهم عن تحقيق هذه المعارضة. إن طريق الإيمان بالمعجزة لا يتوقف علي معرفتها عن طريق التجربة الشخصية المباشرة لها وإنما يمكن أن يتحقق عن طريق معرفة ذوي الاختصاص والخبرة من الناس، الشيء الذي يجعلنا نصدق بالمعجزة، وهذا هو السبيل الوحيد لإيماننا بكثير من حقائق الكون وخصائص عالم الطبيعة حيث يحصل لنا اليقين بها عن طريقة معرفة ذوي الاختصاص وإخبارهم لنا بذلك بشكل لا يداخله الريب أو الشك. فحين يقف العرب أجمع وذوو الاختصاص من الدارسين والعلماء باتجاهاتهم المختلفة أمام القرآن الكريم ويعترفون بخصائصه الإعجازية لا يبقي أمامنا شك في إعجاز القرآن وارتباطه بالسماء. وفكرة الإعجاز في القرآن الكريم من الممكن أن تشرح وتوضح علي نطاق واسع وليس ذلك مما يتعسر فهمها فيفهمها الناس علي حدّ سواء، العربي منهم وغير العربي وذوو الاختصاص وغيرهم لأن إعجاز القرآن لا يختص بالجانب البلاغي من أسلوبه بل هو المعجزة الخالدة التي لا تفني والتي لا تختص بأمة دون أخرى. حكمة عدم جمع الآيات الكونية كلها في موضع واحد بالقرآن الكريم ترجع لاقتران هذه الآيات بعقيدة البعث والتوحيد فناسب أن تذكر معها في مواضعها، كما أن العلم التفصيلي بـها ليس من مقاصد الوحي الذاتية بل هو من كسب البشر، ولو جمعت الآيات الكونية كلها في موضع واحد – كبيان جميع أطوار التكوين – لتعذر فهمها قبل تحصيل مقدماته بالبحث العلمي. إن القـرآن نـزل على البشرية على اختلاف ثقافـات عصورها وتنوع علوم أهلها، واستخدام علوم العربية في بيان أوجه الإعجاز القرآني لم يكن موجوداً في عصر النبوة وإنما في عصور متأخرة فلماذا نجيز لهؤلاء استخدام علومهم لتجلية جوانب الإعجاز العلمي لآيات القرآن. وكون القرآن كتاب هداية للبشر وليس كتاب فلك أو أرصاد لا يتعارض مع كونه متضمناً لأدوات ووسائل الهداية التي قد تكون بالأحكام الشرعية كما تكون بالدعوة للنظر والتأمل في بديع صنع الله، ثم إن القول بأن ما يسمي حقائق علمية ليست سوى فروض ونظريات متغيرة لا يجوز ربطها بالنصوص المقدسة غير صحيح، فالإعجاز يتعامل مع الحقائق العلمية المستقرة ولا يتعامل مع النظريات المتغيرة ويربطها بالنصوص، فحقيقة أطوار الجنين مثلاً عندما تعامل معها الإعجاز فباعتبارها حقيقة علمية لن يأتي العلم يوماً لينفي وجود هذه الأطوار أو يرتبها بعكس ما يصورها القرآن ( نطفة - علقة – مضغة " الخ. وقد وجه القرآن الكريم إلى الإعجاز العلمي في العلوم الاجتماعية والتجريبية، يقول الله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ] فصلت: 53 ـ 54. فالقرآن الكريم وجه إلى الإعجاز العلمي في الآفاق وإلى الإعجاز في النفس. وكلا الأمرين وهما الآفاق والأنفس يعملان على العلوم التجريبية وكذلك على العلوم الاجتماعية. قد تكون الآفاق أكثر ارتباطًا بالعلوم التجريبية وفي مقابل ذلك فإن الأنفس أكثر ارتباطًا بالعلوم الاجتماعية. فيما يختص بالعلوم الاجتماعية فإن مجالها الإنسان من حيث تفسير سلوكه، وتحديد احتياجاته ورغباته، والبناء الاجتماعي الذي يتفاعل فيه، وتطوره الاجتماعي، والعلوم التجريبية لها مجالها الذي تعمل عليه، ويدخل فيها ما يخضع للتجريبية المعملية. من أمثلتها علم الفيزياء وعلم الكيمياء وعلم الأحياء وعلم النبات. إن الفوائد التي تتحقق من إثبات الإعجاز القرآني في العلوم الاجتماعية كثيرة ومتنوعة، ومنها أن إعجاز القرآن الكريم يعود بهذه العلوم إلى الوحي، وهذا مطلب إسلامي، فهذه العلوم كما تعرض في المنهج الوضعي خرجت على الوحي، وقد خسرت بهذا الخروج بل خسرت الإنسانية معها. لقد قولب الفكر المعاصر هذه العلوم في المنهج الوضعي، وأحد شروط الإصلاح في هذه العلوم هو العودة بها إلى المنهج المعياري، والإعجاز القرآني في هذه العلوم هو الذي يعود بها إلى المعيارية. ومن ناحية أخرى فإن العلوم الاجتماعية تعاني من التحيز ومن التعارض ومن المحدودية ومن غير ذلك من أشكال القصور، والإعجاز القرآني يعود بهذه العلوم إلى الوحي، وبالتالي يعالجها من كل أشكال القصور. لقد استورد العالم الإسلامي هذه العلوم بمنهجها ضمن الأشياء التي استوردها من العالم الغربي، بينما هذه العلوم كما يعرضها الغرب بنظرياتها منحازة ضد المسلم وضد ثقافته. إعجاز القرآن الكريم في العلوم الاجتماعية سوف يرقى بها إلى الشمولية الكلية وبهذا يخلص هذه العلوم من النظرات الأحادية والجزئية التي عانت منها مع المنهج الوضعي، وسيكون خير مرشد للإنسان لمعرفة ما هو ثابت في المجالات التي تعمل عليها هذه العلوم فيقبله (المعيارية) وما هو متغير فيكون مجال عمله ويعمل عليه (الوضعية). دراسات الإعجاز القرآني منذ أن بدأت أخضعها العلماء المسلمون لضوابط معينة، ولقيت هذه الضوابط اهتمامًا من كل الباحثين في هذا الفرع من الدراسات القرآنية. أهم ضوابط الإعجاز التي قال بها علماء الدراسات القرآنية هي أن يكون صحيحًا من ناحية العلوم العربية وحقًا من جهة الأصول الدينية ومقبولاً من الناحية البلاغية. ومن قواعد البحث في الإعجاز العلمي التي قال بها علماء العلوم التجريبية أن علم الله هو العلم الشامل المحيط الذي لا يعتريه خطأ ولا يشوبه نقص. وعلم الإنسان محدود يقبل الازدياد ومعرض للخطأ، وأن هناك نصوصًا من الوحي قطعية الدلالة كما أن هنالك حقائق علمية كونية قطعية، وأيضًا فإن في الوحي نصوص ظنية في دلالتها وفي العلم نظريات ظنية في ثبوتها. ومن هذه القواعد أيضًا أنه لا يمكن أن يقع صدام بين قطعي من الوحي وقطعي من العلم التجريبي. فإن وقع في الظاهر فلابد أن هناك خللا في اعتبار قطعية العلم التجريبية، كذلك فإنه عندما يري الله عباده آية من آياته في الآفاق أو في الأنفس مصدقة لآية في كتابه أو حديث من أحاديث رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتضح المعنى ويكتمل التوافق ويستقر التفسير وتتحدد دلالات الألفاظ بما كشف من حقائق علمية وهذا هو الإعجاز، كما أن نصوص الوحي قد نزلت بألفاظ جامعة تحيط بكل المعاني الصحيحة في مواضيعها التي قد تتابع في ظهورها جيلاً بعد جيل. ومن هذه القواعد أيضًا أنه إذا وقع تعارض بين دلالة قطعية للنص وبين نظرية علمية رفضت هذه النظرية لأن النص وحي من الذي أحاط بكل شيء علما، وإذا وقع التوافق بينهما تقبل النظرية كوجه من أوجه التفسير العلمي. وإذا كان النص ظنيًا والحقيقة العلمية قطعية وأمكن التأويل بضوابطه قبل، وكذلك إذا وقع التعارض بين حقيقة علمية قطعية وبين حديث ظني في ثبوته فيؤول الظني من الحديث ليتفق مع الحقيقة القطعية، وحيث لا يوجد مجال للتوفيق نتوقف.