الحرية والاختيار
لا شك أن من المسلّمات المفروغ منها، أن الإسلام لا يجبر أحدا على الاعتقاد بالإسلام نفسه، وترك لأصحاب الأديان الأخرى حرية المعتقد، إيمانا منه بان الحرية أصيلة في عمل الإنسان وسلوكه، ولا يمكن إجبار أحد على التعبد بالإسلام، لوقوع التعارض بين فطرة الإنسان وحكمة التعبد التي تقتضي القناعة ابتداء، فلا إجبار في الاعتقاد ولا تقليد، إنما يقع التقليد في المسائل الشرعية الفرعية، لا العقائدية مثل التوحيد، ومن ذلك قوله تعالى: {لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} (سورة البقرة:256)، وهذه الآية واضحة الدلالة على أن المعتَقَد يصح عند المعتَقِد به عندما يكون في حالة لا يجبره أحد على اعتناقه أو الانعتاق منه وبمحض إرادته، ولا يسمى المعتقد دينا عند من يؤمن به إلا إذا توفرت في الإيمان والتعبد به حرية الاعتقاد، لان من مداليل الدين التمسك بالمذهب والطريقة، ولا يتمسك الإنسان في الظروف الطبيعية إلا بشيء هو مقتنع به، أي انه في حالة ممارسة لكامل حريته، ولا يتخذ المرء لحياته مذهبا إلا بعد قناعة، والقناعة مصداق للحرية.
أما قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} (سورة الكافرون: 6)، فهذا التفريق إقرار بأهمية الاختيار والاقتناع، ولا يقوم الاختيار إلا على مبدأ الحرية، فالمرء الذي يعمل بلا اقتناع فهو يعمل خلاف إرادته، أي في غياب الحرية وغيبوبته عنها، في حين ان الاقتناع الذاتي لابد وان تتوفر فيه أصالة الحرية، وحتى في مجال إقناع الطرف الآخر للإيمان بفكرة أو اعتناق دين فإن الحرية هي الشاخصة في هذه العملية، وهذا ما نلحظه في تعامل المسلمين مع المشركين الذين استجاروا برسول الله (ص) فالخطاب الإلهي الموجه إلى رسوله، هو: {وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (سورة التوبة: 6)، يقول ابن كثير (701-774هـ) في تفسير هذه الآية: (وان أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم، أحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم، استجارك، أي استأمن، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي القران تقرؤه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله ثم أبلغه مأمنه، أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون، أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده)، ونقل ابن كثير قول ابن أبي نجيح عبد الله بن يسار الثقفي (ت131) عن مجاهد بن جبر المكي المخزومي (21-104هـ) في تفسير هذه الآية، قال: انسان يأتيك ليسمع ما تقول وما انزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء، ومن هنا كان رسول الله (ص) يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة، كما جاء يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم عروة بن مسعود ومكزر بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم، واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله (ص) ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم واخبروهم بذلك وكان ذلك وامثاله من اكبر أسباب هداية أكثرهم) (2).
وفي الظروف الطبيعية غير ظرف الاستجارة الاستثنائي، فإن الحرية في تصوري، ليست فقط في ان يقتنع الطرف الاخر بالفكرة أو المعتقد، بل له كامل الحرية والتصرف في ان لا يستمع إلى المتحدث من الاساس، وان لا يحدثه اصلا، الا بما يحب أن يسمع، وفي الدعوة الإسلامية إنما من باب اللطف الإلهي والرحمة الإلهية، أن يُعرض على غير المسلم رسالة الإسلام، وله أن يسلم مستبصرا أو لا يسلم، فإبلاغه الحجة هي رسالة الأنبياء، كما قال تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (سورة النساء: 165).