ويرفض الحياة لبقية الشعوب في الوقت الذي يعتبر البعض أن الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية حول حلّ الدولتين وتجميد النشاط الاستيطاني هو خلاف هامشي يمكن لتلّ أبيب الالتفاف عليه، بطريقة أو أخرى، كما يمكن لواشنطن تجاوز سوء التفاهم، هذا بعد زيارة الرئيس الأمريكي باراك اوباما إلى السعودية ومصر، وتعود إلى اتفاقها الضمني مع إسرائيل حول المسألة، يعتبر البعض الآخر أن هذا الخلاف سيتحوّل إلى صدام بين الطرفين الحليفين باعتبار أنه يتضمّن في العمق أبعادا ذات طبيعة إستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وذات طبيعة وُجودية بالنسبة إلى إسرائيل. فلأول مرة تعتبر الولايات المتحدة أن حلّ الصراع في "الشرق الأوسط" هو مصلحة للأمن القومي الأمريكي، كما أكد قائد القوات المركزية الجنرال ديفيد بترايوس بأن "حل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي أساسي للغاية" لعمله "كقائد للقوات الأمريكية" في 20 دولة تقع غالبيتها في العالم الإسلامي، وبالتالي فإن معالجة هذا "النزاع سيكون خطوة إيجابية إلى الأمام، وأن أموراً كثيرة قد تتحسن إذا تم حل هذه المسألة". أما من الجانب الإسرائيلي فإن بنيامين نتنياهو يعتبر أن "إسرائيل دولة تختلف عن باقي الدول، إذ أنها مهددة من كل مكان ولا يستطيع أي شعب آخر أن يصمد أمام مثل تلك التهديدات التي تواجهها"، معلنا التزامه بأمن إسرائيل حتى لو فقد شعبيته في الوقت الذي رفض وزير الخارجية العنصري أفيغدور ليبرمان، ما وصفه بـ"التدخلات الخارجية في السياسة الإسرائيلية"، وذلك ردّاً على خطاب الرئيس الأمريكي باراك اوباما الذي اعتبر مؤتمر أنابوليس مرجعية ممكنة للسلام. وليس من الواضح بعدُ ما إذا كانت حكومة بنيامين نتنياهو ستذعن للأمر الواقع وتتفهّم الضرورات الاستراتيجية الأمريكية؟ أم أنها ستتشبّث بمواقفها وتواصل عنادها؟ كما يتساءل البعض عن الثمن الذي ستدفعه حكومة نتنياهو في حالة إصرارها على مواقفها تلك؟ وما هو حجم المكاسب التي ستتحصل عليها إسرائيل في حالة إذعانها للرغبة الأمريكية؟ اختيار الرئيس الأميركي باراك أوباما للقاهرة من أجل مخاطبة العرب والمسلمين كان مبنيّاً حتماً على أهمّية مكانة مصر في العالمين العربي والإسلامي، وعلى ما تريد واشنطن دعمه من سياسة خارجية تتّبعها الحكومة المصرية خاصّةً تجاه الصراع العربي/ الإسرائيلي. لكن اختيار الزمان أيضاً له اعتبارات هامّة، فزيارة اوباما و"رسالته" مؤقّتة زمنياً مع ذكرى حرب 1967، وما تعنيه هذه الذكرى لعموم المنطقة كلّها؛ ربّما أراد اوباما في اختيار هذا الزمان أن يذكّر العرب من جهة بهزيمتهم العسكرية، ويذكّر الإسرائيليين من جهة أخرى بأنّ احتلالهم للأرض وانتصارهم العسكري لم يحقّق لهم، رغم مرور أكثر من أربعة عقود، أمناً ولا سلاماً. أيضاً، فإنّ مخاطبة العرب والمسلمين، من أوّل عاصمة عربية وقّعت معاهدة صلح مع إسرائيل، له مغزاه الذي تحرص عليه الآن إدارة اوباما في سعيها لتسوية شاملة بالمنطقة. لكن الرئيس اوباما يدرك أنّ ما يأمله العرب والمسلمون من تغيير في سياسة الولايات المتحدة سيكون محكّه الصراع العربي/ الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية تحديداً؛ لذلك فإنّ اختيار القاهرة كمكان، وعشيّة ذكرى حرب 1967 كزمان، لا يكفيان وحدهما لصنع نظرة جديدة للسياسة الأميركية. تتحدّث إدارة أوباما الآن عن ضرورة وقف بناء أو توسيع المستوطنات الإسرائيلية، وعن التمسّك بصيغة حلّ الدولتين، وهذا الأمر هو مدخل مهمٌّ طبعاً، لكن ماذا لو تكرّر ما حدث في العام 1991 من خلاف أميركي إسرائيلي حول القضية نفسها "تجميد المستوطنات" ومن صيغة مؤتمر مدريد الذي شهد تجاوز فكرة ما حدث مع مصر السادات من مفاوضات ثنائية مباشرة؟!فإسرائيل "يدعمها الموقف الأميركي" حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّك بأسلوب المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وأي طرف عربي، وعلى الدعوة إلى حلول منفردة مع الأطراف العربية؛ ممّا يشرذم الموقف العربي أولاً "كما حدث بعد المعاهدة مع مصر"، وممّا يؤدّي أيضاً إلى تقزيم القضية الفلسطينية وجعلها في النهاية مسألة خلاف محصورة فقط بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني؟!ألم ينتهِ مؤتمر كامب ديفيد في مطلع التسعينات إلى هذه النتيجة العملية بعدما كانت الفكرة الأساسية منه هي إعداد تسوية شاملة على كلّ الجبهات، واعتماد رعاية دولية لهذه التسوية وعدم حصرها بالمفاوضات الثنائية؟؟ ألم يتحوّل مؤتمر مدريد إلى عذر من أجل الضغط على العرب للتطبيع مع إسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلّة؟ فما الذي نتج عملياً عن مؤتمر مدريد غير التطبيع حتى مع دول عربية وإسلامية غير معنيّة مباشرةً بالصراع مع إسرائيل؟!أمّا القضية الفلسطينية فقد جعلها اتفاق أوسلو "الثنائي" مسألة خاضعة للتفاوض فقط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي هي أقلّ من حكم ذاتي على الأراضي الفلسطينية المحتلّة؛ وقد أخذت إسرائيل من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بها وبالتعهّد بعدم استخدام أي شكل من أشكال المقاومة، مقابل الاعتراف فقط بقيادة المنظمة وليس بأي حقّ من حقوق الشعب الفلسطيني! الآن تتجمّع قطع مبعثرة لتشكّل لوحة شبيهة بما حدث في مطلع عقد التسعينات، من حيث "أوجه الخلاف" بين واشنطن وتل أبيب أو من حيث مشاريع صيغ التسوية الشاملة. هناك اختلاف كبير طبعاً بين ظروف الحاضر والماضي وبين إدارتيْ جورج بوش الأب "وبعده كلينتون" وبين إدارة أوباما، لكنْ هناك تشابه كبير بين واقع الحال العربي الآن وبين ما كان عليه منذ عقدين من الزمن. الأمر نفسه ينطبق على الطرف الإسرائيلي أيضاً؛ فأسلوب التصلّب الإسرائيلي يتكرّر مقابل أسلوب التنازلات العربية!! وهاهي الآن حكومة نتياهو ترفض تجميد بناء المستوطنات وتوسيعها حتى يصبح هذا الأمر هو القضية، وحتى يكون التنازل الإسرائيلي عنه مقابل ثمن باهظ تدفعه واشنطن مساعداتٍ عسكرية ومالية، ويدفعه العرب والفلسطينيون بمزيدٍ من التنازلات السياسية. ما أسخف الحديث الأميركي والدولي الآن عن ضرورة وقف بناء المستوطنات "غير القانونية" و"غير الشرعية"، فكل المستوطنات هي أصلاً غير شرعية وغير قانونية لأنّها تحصل على أراضٍ محتلّة حسب الوصف "القانوني" و"الشرعي" الدولي؛ فالمستوطنات هي إفراز لحالة احتلال وهذا ما يجب الحديث عنه. القضية الأساس هي قضية الاحتلال وليس المستوطنات، ومن يرفض المستوطنات عليه رفض الاحتلال أولاً، ومعاقبة المحتل إذا لم يُنهِ احتلاله، كما عليه دعم من يقاوم هذا الاحتلال. هذه هي الشرعية الدولية، وهذا هو قانون وسيرة الاحتلال في أيّ زمان ومكان. فهل ستتعامل إدارة أوباما مع قضية المستوطنات على أنّها جزء من حالة احتلال؟إنّ ما يحصل الآن من تركيز على موضوع المستوطنات فيه شيء من التبرير لما قد يحدث من ضغوطات أميركية ودولية على الأطراف العربية لكي تباشر خطوات التطبيع مع إسرائيل ربّما لمجرّد إعلان حكومة نتياهو عن تجميد المستوطنات وعن استعدادها لدراسة فكرة حل الدولتين من خلال استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، بحيث يتزامن ذلك مع انعقاد مؤتمر دولي يسعى لتسويات على الجبهتين السورية واللبنانية، ويؤدّي إلى التطبيع العربي والإسلامي الشامل مع إسرائيل. ولا أعلم كيف سيكون مصير الدولة الفلسطينية المنشودة أو القدس أو حقّ العودة أو حتى مصير حدود الدولة الفلسطينية ومدى سيادتها على أرضها، إذا تحقّقت فعلاً تسويات شاملة على