خلال أقل من شهر شهدت مصر في أكثر من محافظة العديد من الحوادث والصدمات التي كان طرفها الأول المواطنون والطرف الثاني الحكومة، المواقف تنوعت بين رفض أهالي الجيزة دفع فواتير الكهرباء بعد إضافة رسوم النظافة عليها، بل وتهديدهم بتحطيم شركة الكهرباء لو أقدمت على قطعِ التيار عنهم، ومن الجيزة إلى المحلة حيث تظاهر آلاف العمال وحملوا نعوشًا رمزيةً لرئيس شركة غزل المحلة، العمال المتظاهرون بلغ عددهم ١٥ ألف، من إجمالي ٢٧ ألفًا هم عمال الشركة، دخلوا في اعتصامٍ وإضرابٍ مفتوحٍ عن العمل؛ احتجاجًا على عدم صرف شهرين أرباحًا، وعد بهما الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء وعجز عن توفير هما، العمال كتبوا على النعوش الثلاثة: "البقاء لله.. الجبالي مات"، الغريب أن الحكومة بدلاً من أن تفي بوعدها بدأت في اتخاذ خطوات لمنح العاملين إجازة إجبارية، والتبكير بعملية الصيانة الدورية لمحطة الكهرباء، التي تتطلب عادة من ٧ إلى ١٠ أيام، ويأتي هذا التصرف من الحكومة بعد أن وجدت استحالة في دفع مبالغ إضافية للعمال غير الـ"٢١" يومًا المقررة سلفًا. ومن الاعتصام المفتوح بالمحلة إلى مسجد الحسين وأثناء خطبة الجمعة فُوجئ المصلون بأحد الأشخاص ينهض من مكانه، صارخًا موجهًا سبابًا وألفاظًا غير مفهومة، ثم صعد منبر المسجد وحاول خطف الميكروفون من الخطيب- وبعد القبض عليه- أتضح أن الشاب كان يريد طلب مساعدة من المصلين في علاجِ والدته التي تعاني من الإهمال بأحد المستشفيات الحكومية، وقد بلغ به اليأس والإحباط مبلغه، فلم يجد مفرًّا من أن يلجأ إلى استخدام العنف حتى لو كان هذا في بيتٍ من بيوت الله وأثناء أداء الصلاة، أما في محافظة دمياط فإنَّ الأمرَ اختلف حيث دارت معركة بين المواطنين من أصحاب الأقفاص السمكية وبين قوات الأمن أثناء حملة لإزالة الأقفاص، استخدمت خلالها الشرطة القنابل المسيلة للدموع واستخدم الأهالي الحجارة؛ مما أسفر عن إصابةِ العديد بالاختناق والإغماء وتكسير سيارات الشرطة، وتمكَّن المعتصمون من أَسْر لنش شرطة في النيل، ولو أضفنا لهذه الأخبار خبر التنظيم العصابي للأطفال والذي كشفت عنه الصدفة وحدها، لتبيَّن أنَّ مصرَ باتت في مرحلة خطيرة، فالدولة أو الحكومة وفي القلب منها الجهاز الأمني لم يعد يشغله سوى مواجهةِ معارضيه إما بتدبير المكائد أو بالاعتقال وتزوير الانتخابات سواء كانت طلابية أو نقابية، وواكب ذلك فشلٌ واضحٌ من الحكومة في الحدِّ من ارتفاع الأسعار التي وصلت لمرحلة لم تعرفها مصر من قبل، كما أنها فشلت في توفير الحدِّ الأدنى لأمانِ المواطنين سواء في الجوانب الخدمية أو الصحية وحتى العلاجية. ولعل هذه الحالات التي سبق ذكرها وغيرها العشرات من الحوادث التي تملئ بها صفحات الحوادث بالصحف اليومية والأسبوعية، جعلتنا نسأل عن دور الدولة، وهل طفح الكيل ووصل للحد الذي تعجز معه الحكومة عن التصرف؟ وهل استخدام كل مواطن عضلاته للحصول على حقِّه ستكون هي الطريقة السائدة؟ هل العنف أصبح سمة سائدة في حياتنا؟ وهل الشعب في طريقة للانفجار؟ وهل يمكن للحالات الفردية أن تتحول إلى فعل جماعي؟ في البداية يُشبه د. علي ليلة- رئيس قسم الاجتماع بجامعة عين شمس- الحالة الاجتماعية التي نعيشها الآن بإناء به ماء يغلي وفوقه غطاء محكم الغلق، ومن شدة الغليان يضغط البخار على الغطاء فيرفعه قليلاً وتبدأ مرحلة التنفيس، فإما أن يعمل هذا التنفيس على المحافظة على عدم الوصول لحالةِ الانفجار، أو ينفجر الإناء محطمًا نفسه ومحطمًا كل ما يُحيط به في الوقتِ ذاته، ويؤكد د. ليلة أنَّ الضغوط التي يعيش فيها المجتمع الآن تجعل الناس تنفس عن طريق المناطق الضعيفة، أو الفئات الأضعف والأكثر تهميشًا، مشيرًا أن هذه هي بوادر الانفجار. ويبدي د. ليلة مخاوفه من أنَّ اتجاهاتِ العنف الحادثة في المجتمع الآن لا تسير في اتجاه الثورة، موضحًا أنها رغم اتفاقها مع الثورة من حيث البدايات التي تبدأ بأفعال فردية ثم جماعية حتى تصبح ثورة عامة، إلا إنها تختلف عن الثورةِ من جانب غاية في الأهمية وهو أنَّ الثورةَ لديها تصور للمستقبل، أما الحالة الحالية فهي تتجه في اتجاه الفعلِ الفوضوي والعنف العشوائي. ويشير إلى أنَّ الاعتماد على أسلوب الحلول الأمنية قد يؤدي إلى نتائج مُسكنة مؤقتة، ولكنه في النهايةِ يكون سببًا رئيسيًّا لانفجار الأزمات، كالمريض الذي يُسكن آلامه بالمسكنات ولا يعالج المرض حتى يقضي المرض عليه تمامًا، ومشددًا أنَّ حدوث الانفجار هذه المرة لا مجال للسيطرة عليه. ويناشد د. ليلة المسئولين أن يدركوا أنَّ المجتمعَ دخل في مرحلةٍ الجدِّ، وأنَّ عليهم أن يبذلوا كل جهدهم لتحسين الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، وعلينا أن نتعظ ولا ننسى مشهد المواطنين وهم يدمرون كل ما يجدونه في طريقهم في العام 77. لا أمل ولا حلم ويُرجع د. محمد المهدي- أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر- هذه الحالة إلى الإحساس بالإحباط الغالب على الناس هذه الأيام، مؤكدًا أنَّ الإحباط لم يعد على مستوى واحد وإنما على عدة مستويات، على المستوى الوظيفي، والاجتماعي، والسياسي. موضحًا أنَّ علم النفس والدراسات النفسية تؤكد أن أكثر ما يؤدي إلى العنف هو الإحباط، فالأمر يسير عبر سلسلة تبدأ بالإحباط، والذي يؤدي إلى الغضب، ثم استثارة، فقابلية للعنف، يليه عنف لفظي، يتطور أخيرًا إلى عنفٍ بدني. ويُنبِّه د. المهدي إلى أنَّ غياب الحلم وانعدام الأمل لدى أغلب فئات المجتمع يُعدُّ من أهم أسباب انتشار العنف، فالإنسان الفاقد للأمل ولا يجد حلولاً لمشاكله إنسانٌ مرشحٌ لارتكابِ جريمة، وخاصةً أنَّ الناس أصبحت تتوقع اتجاه الأحوال إلى الأسوأ. ويناشد د. المهدي الجمعيات الأهلية والخيرية العملَ على تخفيفِ المعاناة وخاصةً للفئاتِ الهشة القابلة للانفجارِ وأغلبهم يعيشون في الأماكن العشوائية، كما أنه يدعو المثقفين والواعين إلى أخذ زمام المبادرة لإنقاذ المجتمع الذي يحتاج دائمًا لشخصيات قيادية تقوده ولو لم يجد هذه القيادة الواعية قد يلجأ إلى قيادات تدميرية تحطم المجتمع بأمله. جمعية أصدقاء الشرطة أما د. سهير عبد المنعم- الأستاذة بمركز الدراسات الاجتماعية والجنائية- فتنتقد أسلوب الدولة في التعامل الأمني مع المواطنين، وترى أنَّ المجتمعَ يحتاج إلى سلطةٍ وسيطةٍ بين المواطنين وبين الشرطة، سلطة يكون لها صلاحية قانونية للتدخل وصلاحية شرعية للتصرف، بحيث يكون تدخلها قبل وصول المواطن إلى يد الشرطة، وتقترح أن تكون هذه السلطة عبارة عن جمعيات أهلية أو جماعات أصدقاء الشرطة، بحيث يكون لها فرعٌ في كل حي وقرية ومدينة، وتعول د. سهير على هذه الجمعياتِ أن تقوم بنوعٍ من أنواع الضبط الاجتماعي، وإن كانت تُعرب عن خوفها من عدمِ وجود مواطنين لديهم درجة عالية من الوعي قانونيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا حتى يستطيعوا القيام بهذا الدور. وتؤكد أن الضغوط الاقتصادية لها الفاعلية الأكبر في وصول المواطنين إلى حالة الانفجار؛ لأنها تحدد اختياراتهم وتقلل فرصهم،