وكذلك في جلال بايار (مؤسس الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه عدنان مندريس) وفي عدد من أتباعه، مع التصدي بمنتهى العنف للتيارات الإسلامية المتنامية، وكانت هذه صدمة كبيرة للحركة الإسلامية في تركيا، خاصةً أنها جاءت في وقت متزامن مع وفاة العلاّمة الفذّ بديع الزمان النورسي في منفاه بمدينة أورفة في نفس السنة. ولكي ندرك مدى الحقد الذي كان في قلوب العسكريين ضد بديع الزمان النورسي، يكفي أن نعلم أنهم هجموا على قبره، وأخذوا جثته حيث دفنوها في مكان غير معلوم، ولا يعرفه أحدٌ من الأتراك حتى يومنا هذا! ظل الوضع على هذه الصورة القاتمة إلى أن ظهرت شخصية محورية في تاريخ تركيا، وهو القائد الإسلامي الجليل نجم الدين أربكان، الذي قام بتأسيس حزب السلامة سنة 1972م، وكان ينادي بإقامة "النظام العادل"، ويبرز آفات العلمانية التركية المتشددة، ولم يكن حزبه الأول "السلامة" واضح الإسلامية؛ لكي لا يُقتل في مهده، ولكن كان يبدو إصلاحيًّا وطنيًّا. وبعد تأسيس هذا الحزب الجديد التقى نجم الدين أربكان مع رجب طيب أردوجان، وكان طالبًا في كلية الاقتصاد والسياسة بمرمرة، وأعجب به إعجابًا شديدًا وضمه إلى حزبه السلامة؛ ليبدأ أردوجان خطواته السياسة مع أستاذه الموقَّر أربكان. لم تكن هذه التحركات بعيدة عن أعين النظام التركي العلماني، فقام بحل حزب السلامة في سنة 1980م، وظنوا أن الأمر انتهى بهذا القرار، لكن المُخَضْرَم أربكان عاد وأنشأ حزبًا آخر سنة 1983م أسماه حزب الرفاه، والتي كانت توجهاته إسلامية بشكل واضح.. في هذا الحزب الجديد لمع نجم أردوجان بسرعة، وصار أردوجان رئيسًا لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985م (وكان عمر أردوجان آنذاك 31 سنة فقط). انتشرت فروع حزب الرفاه بسرعة في تركيا، وبدأت صحوة إسلامية حقيقية في ربوع هذا البلد الإسلامي العريق، ولم تعد هذه الصحوة في القرى فقط، بل وصلت إلى المدن، بل وأصبحت السيطرة الكاملة لهذا الحزب الإسلامي في أهم مدينتين في تركيا، وهما إسطنبول وأنقرة. وفي سنة 1994م حقق الحزب مفاجأة كبيرة بفوزه في انتخابات البلدية في عدة مدن، والأعظم من ذلك والأعجب هو فوز أردوجان بمركز رئيس بلدية إسطنبول!! لقد كانت مفاجأة مدوِّية أن يصعد إسلامي إلى رئاسة بلدية إسطنبول؛ مما يشهد أن الانتخابات في تركيا نزيهة ليس فيها التزوير المشهور في البلاد العربية، وحقق أردوجان في منصبه الجديد إنجازات هائلة؛ ففي خلال أربع سنوات (من سنة 1994م إلى سنة 1998م) استطاع أن ينتشل المدينة من الإفلاس، وأن يحلَّ مشكلات كثيرة مثل انقطاع الكهرباء والمياه، واستطاع أن يحوِّل المدينة من مدينة تتفشى فيها القذارة والإهمال إلى واحة خضراء متميزة، وعندما سألوه عن السر وراء هذا النجاح منقطع النظير، قال في وضوح وشجاعة: "لدينا سلاح أنتم لا تعرفونه، إنه الإيمان، ولدينا الأخلاق الإسلامية، وأسوة رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام". وهذه الروح العالية والإنجازات الباهرة أكسبت أردوجان شعبية كبيرة جدًّا في تركيا، بل إنها كانت من أبلغ الوسائل للدعوة إلى الإسلام. وفي سنة 1995م حدثت مفاجأة كبرى بفوز حزب الرفاه على أعلى المقاعد في الانتخابات البرلمانية في تركيا (158 مقعدًا من أصل 550 مقعدًا)، ولكن الرئيس العلماني سليمان ديميريل عهد إلى الأحزاب العلمانية بتكوين ائتلاف ضد حزب الرفاه، ومع ذلك شاء الله U أن ينهار هذا الائتلاف ليصعد نجم الدين أربكان إلى منصب رئيس الوزراء في سنة 1996م، ويصبح أول رئيس وزراء إسلامي في تركيا منذ سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924م. حدثت أزمة كبرى في داخل الجيش التركي، وفي داخل المؤسسة العلمانية، وكان من رأي بعض قادة الجيش أن يتركوا أربكان في منصبه حيث كانوا يتوقعون فشله، وعدم نجاح مشروعه الإسلامي، وبذلك تصل رسالة سلبية إلى الرأي العام في تركيا، لكن حدث ما لم يتوقعوه، ونجح أربكان في خلال عام واحد من خفض ديون تركيا من 38 مليار دولار إلى 15 مليون دولار، واقترب من حل المشكلة الكردية العويصة، ونجح في إقامة علاقات دبلوماسية قوية على الساحة العالمية، وتقدم الاقتصاد التركي خطوات واسعة، وبات واضحًا تمامًا أن السر في هذا النجاح هو الإسلام! شعر الجيش التركي بالخطر العظيم فأقدم على الخطوة الآثمة وهي الانقلاب العسكري على حكومة أربكان، ودخلت الدبابات التركية إلى شوارع أنقرة وإسطنبول، وأجبر أربكان على الاستقالة، وتم حل حزب الرفاه، وقُدِّم أربكان إلى المحاكمة العسكرية بتهمٍ كثيرة أهمها انتهاك علمانية الدولة، وصدر القرار بمنعه من مزاولة النشاط السياسي لمدة خمسة سنوات، وفي نفس الوقت قُدِّم أردوجان رئيس بلدية إسطنبول إلى المحاكمة بتهمة إثارة الفتنة، وكان من أدلة الحكم ضده أنه قال بعض الأبيات الشعرية في إحدى خُطَبِهِ وفيها "المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حِرابنا، والمؤمنون جنودنا". وصدر القرار بسجن أردوجان عشرة أشهر، ودخل بالفعل السجن لمدة أربعة أشهر، ثم أفرج عنه لحسن السير والسلوك! كما تم منعه من مزاولة النشاط السياسي خمسة سنوات هو الآخر. لم ييئس أربكان وأردوجان من هذه الصدمات، فأسس أربكان حزبًا جديدًا أسماه حزب الفضيلة سنة 2000م، ولم يكن هذا الحزب باسمه؛ لأنه ممنوع من مزاولة العمل السياسي لمدة خمس سنوات، إنما كان باسم أحد أهم أتباعه وهو قوطان، وانضم إلى هذا الحزب أردوجان وعبد الله جول (الرئيس التركي الحالي). وجد أردوجان وجول أن مصير الحزب سيكون كسابقه، ومن ثَمَّ قادا حركة إصلاحية في داخل الحزب، بل وترشحا ضد قوطان في انتخابات داخلية في الحزب، لكن وقوف أربكان خلف قوطان أدى إلى نجاح قوطان؛ مما دفع أردوجان وجول إلى ترك الحزب مع كامل تقديرهما لأستاذهما وأستاذ الحركة الإسلامية السياسية في تركيا نجم الدين أربكان. قام أردوجان وجول بتأسيس حزب جديد سنة 2001م، وهو حزب العدالة والتنمية، ونفّذا فيه مشروعهما الإصلاحي، ووجد هذا الحزب قبولاً واسعًا في الأوساط التركية الشعبية؛ مما أدى إلى مفاجأة ثقيلة جدًّا سنة 2002م حيث فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية مطلقة في الانتخابات البرلمانية، حيث حصل على 368 مقعدًا من أصل 550 مقعدًا، وأوكل إليه تشكيل الوزارة برئاسة عبد الله جول؛ وذلك لأن رئيس الحزب أردوجان كان في فترة المنع من مزاولة النشاط السياسي، وبعد قليلٍ استطاع البرلمان أن يضغط لتغيير الدستور ليصعد رئيس الحزب أردوجان إلى منصب رئيس الوزراء في تركيا، وذلك في نفس السنة 2002م. وفي سنة 2003م زال الحظر عن أربكان، فأسس حزبًا جديدًا هو السعادة، لكن الشياطين العلمانيين كانوا له بالمرصاد، وفعلوا ما توقعه أردوجان قبل ذلك، حيث تربصوا به واعتقلوه بتهمة اختلاس حزب الرفاه المُنحَلّ، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة سنتين، مع أنه كان قد تجاوز السابعة والسبعين من عمره! وفي سنة 2006م أكد أردوجان شعبيته بالفوز مرة أخرى في انتخابات البرلمان، بحصوله على 331 مقعدًا من أصل 550 مقعدًا؛ مما يثبت بوضوح أن الشعب التركي أصبح طالبًا للإسلام بشكل يهدِّد العلمانية بشكل صارخ. أين الجيش التركي في هذه التغييرات الجديدة؟!قد يفكِّر الجيش التركي في التعامل مع ملف أردوجان مثلما تعامل مع ملف أربكان، ولكن الواقع الذي نراه يرجِّح خلاف ذلك! فالرأي العام التركي - بل والإسلامي في دول العالم الإسلامي المختلفة - قد يهدِّد سلامة وأمن الجيش التركي إذا أقدم على إزاحة رجل له هذه الشعبية الجارفة، كما أن رغبة القادة الأتراك في الجيش وفي غيره في الالتحاق بالاتحاد الأوربي تضع عليهم قيودًا حقيقية في التعامل مع ملف أردوجان؛ لأن تدخل الجيش التركي في اختيار الشعب سينسف كل الجهود السابقة للالتحاق بركب الاتحاد الأوربي. وأضف إلى ذلك الخطورة الاقتصادية الكبيرة لتدخل الجيش، وليس ببعيد ما حدث من انهيار البورصة التركية بنسبة 10% لمجرد تقديم أردوجان في عام 2008م للمحاكمة للطعن في شرعية حزبه، مع أن المحكمة حكمت في النهاية لصالح أردوجان، وليس ببعيد أيضًا أن تركيا في ظل حكومة أردوجان قد انتقلت اقتصاديًّا من المرتبة 115 على مستوى العالم في مسألة جذب الاستثمارات إلى المرتبة الثالثة والعشرين! إننا لا نضمن الجيش التركي ولا العلمانيين فيه، ولكننا نضمن ونطمئن تمامًا إلى أن الله U لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وإلى أن الإسلام قادمٌ قادم، وإلى أن البركات التي يُنزِلها الله U على الذين اختاروا منهجَ الإسلام أكثر وأعظم من أن تُحصى بورقة وقلم، أو تُحسب بالطرق المادية. إنه يكفينا أن نتدبر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
ونسأل الله U أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين!!