تجميع السُّنَّة وتمييز صحيحها
في هذا القرن دافع كثير من علماء السُّنَّة عن السُّنَّة النبويَّة الصافية، وما يُرْوَى عن الإمام أحمد بن حنبل في تصدِّيه لمحاولات مستميتة من الخليفة المأمون في محنة خَلقِ القرآن، والتي بسببها عُذِّب عذابًا شديدًا حتى جعلته مجدِّدًا للسُّنَّة، ومحافظًا عليها، وحُقَّ له أن يكون إمامَ أهل السُّنَّة في القرن الثالث الهجري، بعدما تصدَّى لكل الضغوط التي عانى منها.
ثم دخل القرن الرابع الهجري ولم يَزِدْ رجاله على رجال القرن الثالث شيئًا كثيرًا، اللهم إلاَّ ما كان من استدراكهم عليهم، وكان من علماء السُّنَّة في هذا القرن مَنْ نسج على منوال الصحيحين في تخريج الأحاديث الصحيحة، ومن ذلك على سبيل المثال: صحيح ابن خُزَيْمَة (311هـ)، وصحيح ابن حِبَّان (ت 354هـ)، وصحيح ابن السَّكَنِ (353هـ)، ومنهم من نهج منهج أصحاب السُّنَنِ في الاقتصار على أحاديث السُّنَنِ والأحكام، مع اشتمالها على الصحيح وغيره، وذلك مثل: منتقى ابن الجارود (ت 307هـ)، وسنن الدارقُطْنِي (385هـ)، وكذلك نجد مَن اعتنى في هذا القرن بالتأليف في مختلِف الحديث ومشكِلِه، كما في كتابَي الطحاوي (ت 321هـ): (شرح معاني الآثار)، و(مشكِل الآثار) وغيرهما، وذلك تَتْمِيمًا وتكميلاً لما بدأه الشافعي (ت 204هـ) في كتابه (اختلاف الحديث)، والحافظ ابن قتيبة (ت 276هـ) في كتابه (تأويل مختلِف الحديث)، وغيرهما ممَّا أُلِّف في ذلك النوع في القرن الثالث[1].
ومن التجديد في هذا القرن في مجال خدمة السُّنَّة -وما يدلُّ على أن أهل السُّنَّة في كل عصر يُعمِلُون تفكيرهم، ويبذلون جهدهم في ابتكار طرق ووسائل جديدة لخدمة سنة المصطفى r- أنْ ظهر – لأوَّل مرة – نوعان من المصنفات، الأوَّل: هو كتب مصطلح الحديث – علوم الحديث – التي جَمَعت تلك القواعد التي كانت متفرِّقة في كتب مَن سبقهم من علماء القرن الثاني والثالث، ويُعَدُّ كتاب "المحدِّث الفاصل" لأبي محمد الرامهرمزي (ت 360هـ) أوَّل مؤلَّف في ذلك، ثم تَبِعَه أبو عبد الله الحاكم (ت 405هـ) بتأليف كتابه (معرفة علوم الحديث)، ثم استخرج عليه تلميذه أبو نعيم الأصبهاني (430هـ)، ثم تتابع التأليف في المصطلح بعد ذلك. وكان النوع الثاني: هو كتب المستخرَجَات، وهي الكتب التي يأتي المصنِفُ إلى كتاب كالبخاري ومسلم – مثلاً – فيُخَرِّج أحاديثه بأسانيدَ لنفسه من غير طريق المؤلِّف، فيجتمع إسناد المستخرِج مع المؤلِّف في شيخه أو مَن فوقه، ومن فوائد هذه المستخرَجات: علوُّ الإسناد، وكثرة طرق الحديث؛ ليرجَّح بها عند المعارضة، والحكمُ بعدالة مَن أخرج له فيه؛ لأن المخرِّج على شرط الصحيح يلزمه ألاَّ يُخَرِّجَ إلاَّ عن ثقة عنده، ثم بيان سماع المدلِّس، وتعيين المبْهَمِ من الرجال، وكان من أهمِّ المستخرَجَات: مستخرَج أبي بكر الإسماعيلي (ت 371هـ)، والحافظ الغِطْرِيفِيِّ (ت 377هـ) على البخاري، وغيرهم كثير[2].
بَيْدَ أن هذا العصر قد تميَّز عن سابقه بأنه قد أُوجِيز للإنسان أن يَرْوِيَ الحديث دون أن يُقابِل رجاله، ومن غير إجازة مكتوبة تخوِّله حقَّ الرواية، وبهذا حَلَّت دراسة الكتب محلَّ الأسفار التي كان يقوم بها طُلاَّب الحديث قبل لقاء رجاله[3]. وقد استطاع ابن يوسف الصفدي (ت 347هـ) أن يكون إمامًا متيقِّظًا حافظًا في الحديث، وإن كان لم يرحل، ولا سمع بغير مصر[4].
وقد كان المحدِّثون يُعْتَبَرُون من أكبر العلماء شأنًا، وكانوا يُعَدُّون من أعظم رجال الإسلام؛ لقدرتهم الكبيرة على الحفظ ونشر حديث رسول الله r؛ فقد ورد عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث (ت 316هـ) -وهو من كبار محدِّثِي سِجِسْتَان والعراق في القرن الرابع الهجري- أنه كان حافظًا لثلاثين ألف حديث[5]، وورد عن ابن عُقْدَة (ت 332هـ) أنه كان يحفظ بالأسانيد والمتُونِ خمسين ومائتي ألف حديث[6].
ومن أشهر الأئمة في هذا القرن الإمام سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360هـ)؛ فقد ألَّف معاجمه الثلاثة: (الكبير) وذكر فيه الأحاديث بجَمْعِ ما رواه كلُّ صحابي على حِدَةٍ، ورتَّب فيه الصحابة على الحروف، وهو مشتمل على خمسمائة وخمسة وعشرين ألف حديث، و(الأوسط) و(الأصغر): وذكر فيهما الأحاديث بجَمْعِ ما رواه كلُّ شيخ من شيوخه على حِدَة، ورتَّب فيهما شيوخَه على الحروف أيضًا.
وبهذه المجهودات العظيمة التي بذلها علماء هذا القرن إضافة إلى مَن سبقهم تمَّ تجميع السُّنَّة وتمييز صحيحها من غيره، ولم يكن لعلماء القرون التالية إلاَّ بعض استدراكات على كُتب الصحاح، كمستدرَك أبي عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405هـ)، الذي استدرك فيه على البخاري ومسلم أحاديث يرى أنها من الصحاح متَّفِقَة مع شرطيهما، مع أنهما لم يُخَرِّجاها في صحيحيهما، وقد سلَّم له العلماء - وأشهرهم الذهبي - قِسْمًا منها، وخالفوه في قسم آخر[7].
وفي القرن الخامس الهجري سلك علماء السُّنَّة طرقًا أخرى ومجالات جديدة لتدوين السُّنَّة وحفظها؛ حيث ظهرت في هذا القرن النواة الأُولى للموسوعات الحديثة، ومن ذلك: كُتب الجمع بين الصحيحين، وكان من أوَّلها: الجمع بين الصحيحين للحافظ أبي مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي (ت 401هـ)، والجمع بين الصحيحين للإمام أبي عبد الله محمد بن نصر الحُمَيْدِيِّ الأندلسي (ت 488هـ)، والجمع بين الصحيحين للحسين بن مسعود البغوي (ت 516هـ)، والجمع بين الصحيحين لأبي محمد الحسن بن محمد بن الحسن الصغاني (ت 650هـ)، وغيرها من كتب الجمع بين الصحيحين التي دَأَبَ كثير من علماء الحديث السير على نهجها طيلة القرون المتأخِّرة.
[1] انظر محمد مطر الزهراني: تدوين السنة النبوية ص 131.
[2] انظر المصدر السابق ص 132، و 156، 157.
[3] آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، 1/336، 337 بتصرف.
[4] السيوطي: حسن المحاضرة 2/ 164.
[5] انظر ابن حجر: لسان الميزان 3/ 296.
[6] ابن عبد البر: المنتظم 4/ 174، وآدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 1/ 337.
[7] انظر مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع ص 126.