تعريف السُّنَّة ومكانتها
كان الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص من أكثر الصحابة كتابة عن رسول الله r؛ فقد ورد عن أبي هريرة t أنه قال: "ليس أحدٌ من أصحاب رسول الله r أكثر حديثًا عن النبي r منِّي، إلاَّ ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص t؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب"[1]t عن نفسه: كنتُ أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله r أريد حفظه، فنَهَتْنِي قريش، وقالوا: تكتب كلَّ شيء سمعته من رسول الله، ورسول الله r بشرٌ، يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله r، فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: "اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ"[2].. وقد قال عبد الله بن عمرو
كما كان عبد الله بن عباس t من الستَّة المكثرين في الحديث، والخمسةُ الباقون هم: أبو هريرة، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة بنت أبي بكر y. وقد بلغ مجموع ما رواه ابن عباس t 1660 حديثًا، اتَّفق البخاري ومسلم على خمسة وتسعين حديثًا، وانفرد البخاري بمائة وعشرين حديثًا، وانفرد مسلم بتسعة وأربعين حديثًا، وبقية الأحاديث في كتب السنن الأخرى، ورغم المدَّة الزمنية القصيرة التي عاصرها ابن عباس t لرسول الله r -وهي ثلاثون شهرًا- إلاَّ إنه استطاع أن يجمع كلَّ هذا العِلْم في السنة النبويَّة[3].
ويُعَدُّ أبو هريرة t أكثر الصحابة حديثًا وحفظًا، فعن زيد بن ثابت قال: كنت أنا وأبو هريرة وآخر عند النبي r، فقال: "ادْعُوا". فدعوت أنا وصاحبي، وأمَّن النبي r، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحبايَ، وأسألك علمًا لا يُنْسَى. فأمَّن النبي r، فقلنا: ونحن يا رسول الله كذلك. فقال: "سَبَقَكُمَا الْغُلامُ الدَّوْسِيُّ"[4].
ومن ذلك يظهر اهتمام الصحابة بحفظ الأحاديث النبويَّة، حيث أودعوها أوَّل الأمر حوافظهم الفذَّة، وبذلوا في ذلك أعظم الجهد، حتى تناقلت أحاديث النبي r جيلاً بعد جيل، فرَوَوْا أحاديث الوضوء، والطهارة، والصلاة، والصيام، والحجِّ، وكانت الحلقة الأُولى في سلسلة الإسناد الشريف بعد النبي r هم الصحابة الذين رَوَوْا عن المعصوم r مشافهة، أو أخذ بعضهم عن بعض، وعددهم كثير جدًّا؛ قال الحافظ ابن الصلاح: "رُوِّينَا عن أبي زُرْعَة أنه قيل له: أليس يقال: حديث النبي r أربعة آلاف حديث؟ قال: ومَن قال ذا، قلقل الله أنيابه؟! هذا قول الزنادقة، ومَنْ يحصي حديث رسول الله r؟ قُبِضَ رسول الله r عن مائة ألفٍ وأربعةَ عشَرَ ألفًا من الصحابة، وممن روى عنه وسمع منه. فقيل له: يا أبا زُرْعَة، هؤلاء أين كانوا، وأين سمعوا منه؟ قال: أهل المدينة، وأهل مكة، ومَنْ بينهما، والأعراب، ومَنْ شهد حَجَّة الوداع، كلٌّ رآه وسَمِعَ منه بعرفة"[5].
وقد أورد الذهبي أن عدد الصحابة الذين رَوَوُا الحديث عن رسول الله r نحو ألف وخمسمائة، وقد كان كثير من الصحابة t يأمر تلاميذه بالكتابة لتثبيت حفظهم، ثم مَحْوِ ما كتبوه حتى لا يتَّكل على الكتاب، قال الخطيب البغدادي: "وكان غير واحد من السلف يَستعِين على حفظ الحديث بأن يكتبه، ويدرسه من كتابه، فإذا أتقنه محا الكتاب، خوفًا من أن يَتَّكل القلبُ عليه، فيُؤَدِّي إلى نقصان الحفظ، وترك العناية بالمحفوظ"[6].
* تدوين السُّنَّة
من مظاهر هذا التدوين والاهتمام به في عهد النبي r ما ثبت عن أنس بن مالك الأنصاري t أنه كان يحثُّ أولاده على كتابة العلم، فقال: "يا بَنِيَّ، قيِّدوا العلم بالكتاب". وكان يقول t: "كنا لا نَعُدُّ عِلْمَ مَن لم يَكتب عِلْمَه عِلْمًا"[7].
فكان الحديث يُكتَب في صحف، عُدَّت بعد ذلك النواة الأُولى لما صُنِّفَ في القرنين الثاني والثالث من الجوامع والمسانيد والسُّنَنِ، وعن ذلك يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: "والذي كان يُكْتَب في زمن الصحابة والتابعين لم يكن تصنيفًا مرتَّبًا مبوَّبًا، إنما كان يُكْتَب للحفظ والمراجعة فقط، ثم إنه في عصر تابعي التابعين صُنِّفَت التصانيف، وجَمَعَ طائفة من أهل العلم كلام النبي r، وبعضهم جَمَعَ كلام الصحابة"[8].
وقد وُجِدَت صحف دوَّنها كثير من صحابة النبي r؛ فقد روى الخطيب بسنده إلى أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق بعثه مُصَدِّقًا، وكتب معه كتابًا فيه فرائض الصدقة، وعليه خاتم رسول الله r وفيه: "... هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ r عَلَى الْمُسْلِمِينَ..."[9]t؛ حيث قال خطيبًا: "مَن زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلاَّ كتاب الله وهذه الصحيفة - (قال الراوي: وصحيفة مُعلَّقة في قِرَابِ سيفه) - فقد كَذَبَ..."[10]r، ولم يعترض عليها أحدٌ أو يمحها[11].. وقد كانت هذه الصحف من أشهر ما دُوِّنَ في عهد النبي . ومنها صحيفة لعلي بن أبي طالب
وبعد وفاة الرسول r أراد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t أن يُدَوِّنَ الحديث الشريف؛ نظرًا لتعرُّض المسلمين للمستجدَّات المتزايدة من المشاكل التي لن تُحَلَّ إلاَّ بإخضاعها للمصدر الأوَّل من التشريع وهو القرآن الكريم، وكذا المصدر الثاني وهي السُّنَّة، التي لم تكن قد دُوِّنَت بعدُ، لكنَّ عمر بن الخطاب t عدل ورجع بعدما استشار صحابة النبي r في جمع السُّنَّة؛ خَشْية أن يشوب كتاب الله شيءٌ مِن جَمْعِها، وهو ما خَشِيَه أبو بكر الصديق r مِن قَبْلُ، وعليُّ بن أبي طالب t من بعدُ[12].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البخاري: كتاب العلم، باب كتابة العلم (113)، والترمذي (2668)، وأحمد (7383)، والدارمي (483).
[2] رواه أبو داود: كتاب العلم، باب في كتاب العلم (3646)، وقال الألباني: صحيح. انظر السلسة الصحيحة (1532)، ورواه أحمد (6802)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الوليد بن عبد الله. ورواه الدارمي (6802)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح، والخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي 2/ 36.
[3] انظر مصطفى سعيد الخن: عبد الله بن عباس ص 137.
[4] الحاكم: المستدرك (6158)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: حماد بن شعيب ضعيف. ورواه النسائي في السنن الكبرى(5870)، والطبراني في الأوسط (1228).
[5] ابن الصلاح: علوم الحديث ص298.
[6] الخطيب البغدادي: تقييد العلم ص 58.
[7] انظر المصدر السابق ص 96، وطبقات ابن سعد 7/ 22.
[8] انظر محمد مطر الزهراني: تدوين السنة النبوية ص68- 72.
[9] البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم (1386)، والدارمي (1567)، وابن ماجه (1800)، ابن حبان (3266).
[10] رواه البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم (3001)، ومسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي r فيها بالبركة (1370).
[11] انظر في تلك الصحف: محمد مطر الزهراني: تدوين السنة النبوية ص68- 72 بتصرف.
[12] انظر تقييد العلم ص 49 – 53، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 63 – 65، ومحمد ضيف الله البطاينة: الحضارة الإسلامية ص317.