· هل السعادة وهم أم حقيقة؟
من كثرة ما يعاني البشر من إحباطات وهم في طريقهم لتحقيق السعادة .. وفشل في بعض خطواتهم نحوها ، وتعثرهم في إيجاد الروح المُحِبة التى تدفعهم لحب الحياة والسعادة بها ، تجدهم يقولون أن السعادة ضرب من الوهم ، أو أن يسألك أحدهم: أين السعادة؟ إنها سراب ولا وجود لها..
وببساطة أقول: إن السعادة في الحب بمعناه الواسع ، ورفع القيمة المطلقة للجمال ..
نعم السعادة في الحب .. فالإنسان عندما يحب كل ما حوله يكون قد حقق قدراً كبيراً من السعادة .. فإذا أحببت عملي مثلا سوف أكون مبدعاً فيه .. وبالتالي أحقق السعادة لذاتي وأشبع بعض رغباتها .. فالإنسان مجموعة من الرغبات إذا تمكن من إشباعها شعر بسعادة غامرة ..
ومن هذه الرغبات :
- رغبة الإنسان في تحقيق طموحاته في العمل والوصول فيه إلي أرقي المناصب.. لتحقيق الذات .
- رغبته في الحب وتكوين أسرة وتحقيق الطمأنينة والأمن الأمان وإشباع حاجاته الفسيولوجية.
- رغبته في أن يكون محبوباً ممن حوله من الأهل والأصدقاء والمعارف.
- رغبته في تحقيق الرفاهية له ولأسرته .. وتتسع به الدائرة لتشمل تحقيق الرفاهية لمجتمعه وللبشرية جمعاء وتحقيق مستقبل أفضل.
- رغبته في التمتع بالصحة ليوظفها في تحقيق آماله بطريقة صحيحة.
- رغبته في تحقيق الاستقلالية وعدم الاعتماد علي الغير.
فرغبات الإنسان وطموحاته لا تنتهي.. ومهما حقق الإنسان من نجاح فهو يشعر دائماً أن ما حققه ليس بكاف .. ومادام الإنسان حياً فإن احتياجاته ورغباته في تزايد ، وسوف يستمر في سعيه لتحقيق هذه الرغبات ومحاولة إشباعها.. وبدون الحب لا ولن يشعر بلذة تحقيق هذه الرغبات.. فالحب إكسير الحياة ولا تقل أهميته عن الأوكسجين اللازم لبقائنا ووجودنا علي هذه الأرض ..
وليس الحب كما يفهمه البعض .. فعند البعض الحب يعنى التهافت علي اللذات والاغتراف منها واشتهاء الجسد وعشق الماديات .. وتحقيق سعادة زائفة ليس فيها سوى الأنانية وتحقيق السعادة الشخصية من دون تحقيقها للآخرين.
ولكن الحب الذي أعنيه هو السمو بالروح والاستمتاع بهذه العاطفة النبيلة .. والرقي بالنفس فوق الرذائل وتحقيق الذات من خلال ترفعها وسموها والبعد عن الانحرافات التى لن تجلب لصاحبها سوى التعاسة .. فالمحب كالبستاني الذي يبذر الحَب في كل مكان.. فيُزهر وتفوح رائحة الأزهار .. فتملأ أنوف الرائح والغادي
والقلب المفعم بالحب للآخرين يحقق السعادة لنفسه قبل أن يحققها للآخرين ..
وقد فطرنا الله علي فطرة سليمة نقية .. فإذا ما دنسها الإنسان سوف تنوء النفس بما يُحَمِلُها من آثام .. فتزهد في الحياة .. وربما تخلص هذا الإنسان العابث من روحه بالانتحار أو بتقوقعه داخل نفسه وإصابته بالأمراض النفسية المهلكة..
وعاطفة الحب إذا كانت علي مستوى الفضيلة كانت زينة في الوجه وتنويراً للعقل وبها يتحقق السواء والرضا النفسي .. وتلك هي قمة السعادة.
وعاطفة الحب عاطفة سامية لا يجب أن نخجل منها -كما يفعل البعض-.. لأنها تسمو بالنفس إلي أرقي قممها .. فإنها تهذب النفس وتفتح الطريق أمام الخير وتنشر السعادة والصفاء في كل النفوس من حولها ..
فنرى رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم لم يجد أي غضاضة في سماع كلمات الغزل والحب من الشاعر " كعب بن زهير" عندما طلب "كعب" العفو من رسول الله بقصيدة تحوي في مطلعها غزل يقول:
" بانت سعاد فقلبي اليوم متبول" ولم ينكر الرسول صلي لله عليه وسلم هذه العاطفة السامية بل عفا عن الشاعر " كعب بن زهير" وخلع عليه بردته الشريفة.. وفي هذا تصريح من نبينا الإنسان الذي وصفه رب العزة بأنه علي خلق عظيم.. بأن العواطف الراقية لا خجل فيها لأنها غير مشوبة بأي شائبة .. بل علي العكس فالقلوب الإنسانية التى تحتفظ ببكارتها والتى تتمتع بقدرتها علي الإحساس بالجمال هي قلوب لم تفقد روحها الإنسانية الشفافة التى فطرها الله علي العفة والجمال.. وهي التى تجعل صاحبها إنساناً دافئاً يتعامل مع الحياة بعفوية مطلقة وبدون أقنعة ويشيع الطمأنينة في نفس كل من حوله.. ومن عرف الحب النبيل النزيه يعرف جيداً أن هذه العاطفة هي التى تجعل للحياة مذاقاً خاصاً .. ولا طعم للحياة بدونها ..
وإذا ما أردنا أن نتعرف علي الحب فنحن علي أعتاب الجمال والطهر والنقاء ، فالحب يظهر في العطاء ومحاولة الأخذ بيد الأخر .. كما يظهر في همسة رقيقة تهمس بها في أذن إنسان بائس فتفتح أمامه نافذة من نور وتُدخل إلي نفسه الأمل في الغد .. الحب في ترويض النفس وحجبها عن اقتراف الآثام .. الحب هو الاحتفاظ ببكارة الأحاسيس ونقائها .. وأن تري نفسك جميلاً في مرآة روحك.. الحب هو الذي يرسم لنا وجه الكون فنراه من خلاله رائعاً ..الحب هو الحياء والرضا والتسامح..
والحب ليس وهماً .. لأنه شعور بديع .. نشعر به فننتشي بلذة وجودنا في الحياة .. الحب حقيقة ولكننا نشوهه بتصرفاتنا غير الحكيمة.. والكثير منا يحمل الحب بين جوانحه ويجده متجسداً أمامه إلا أنه يتركه ليتسرب من بين أصابعه دون أن يحافظ عليه .. بل ويعتقد أنه طالما حصل علي الحب فهذا يكفيه ، فلا يحاول بعد ذلك الحرص عليه ، ويهمله .. حتى ينزف ويجف .. وبعد أن ينفذ كل ما لديه من عاطفة جميلة .. ينظر حوله.. فلا يجد سوى الظلام.. فأجمل عاطفة كانت تنير حياته تبددت!!.. فيجلس ليندب حظه ويظلم الحب والقلوب النابضة به .. ويدعى أن الحب وهم.. وينسي أنه هو الذي أضاع الحب من بين يديه ولم يبذل أي جهد للحفاظ عليه.. فالحب كالنبتة الصغيرة تحتاج رعاية وعناية حتى تكبر وتتكاثر ويستفيد منها أكبر قدر من البشر.
فمعظمنا يملك القدرة علي الحب لكن قلّة منا يملكون القدرة علي الاحتفاظ بهذا الحب.. لذا يجب أن نتعامل مع الحب كما نتعامل مع كائن يشعر ويحس ويتنفس.. ونرعاها رعايتنا لوليدنا حتى ينمو ويترعرع فنشعر بلذة الحب وجماله.
والحب ليس حب الرجل لامرأته فقط أو حب المرأة لرجلها .. وإنما الحب هو حب جميع المحيطين بنا سواء علي وجه الخصوص (العلاقات الخاصة) أو علي وجه العموم (العلاقات العامة) وكيفية التعامل مع كل فرد ..
ولنا في رسول الله أسوة حسنة .. فقد كان يجمع جميل الصفات التى يتعامل بها مع الناس فيكسب ودهم ويعلمهم كيف يكون الحب حقيقة واقعة.
فقد وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم: كان أجودَ الناس كـفّـاً ، وأشرَحهم صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وألْيَنهم عريكة ، وأكرمهم عِشرة ، من رآه بديهةً هابَـه ، ومن خالطه معرفـةً أحبَّـه ، يقول ناعِتـُه : لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم .
رواه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي في شُعب الإيمان .
وقد أعجبتني مقالة في جريدة الجمهورية للأستاذة "منى نشأت" تؤكد فيها أنه مهما كانت دقة الدراسات والأبحاث في العواطف الإنسانية إلا أنه لا يمكن أن يتوصل العلماء إلي ما يدور في النفوس البشرية وذلك لتباين انفعالات كل نفس واختلافها الشديد عن غيرها .. والمقالة بعنوان: (حكاية حب) وتقول:
(( تخصصه كيمياء المخ وبالتالي فإن "روبنسون" الأمريكي مهمته وصميم عمله هو تصرفاتك وانفعالاتك وردود أفعالك وأيضاً عواطفك .. وهو ومعه فريق من باحثيه أصدروا بياناً بصموا عليه بالعشرة أن الحب لا يمكن أن يزيد عمره علي ثلاث سنوات.. فالمخ يولد شحنات وطاقة عواطف تبدأ علي أشدها وهي قادرة علي العمل بحد أقصي لتلك المدة التى حددوها ، ثم يتوقف كبطارية فرغ شحنها ولا يمكن بحال إعادته وتأتي السنة الرابعة التى يطلق عليها الخبراء سنة التأرجح فأنت تري من تحب ولكنك لا تشعر به فتظل علي حال من التساؤل ماذا حدث حتى يتضح لك الأمر وتتأكد أنه الحب الذي كان وتعترف بذلك .. ينتهي كلام روبنسون ليتدخل علماء آخرون والخلاف ليس علي المبدأ لكن علي الفترة الزمنية ، فهناك من يؤكد أن الحب عمره سبع سنوات ويأتي الدور علي أخصائي العلاقات الزوجية الذين لا يتركون البحث دون تحليل من جانبهم ، فهم يوضحون أن الزواج طويل الأمد لا يعنى هدم النظرية .. فما يحدث بعد سنوات الحب المفترضة هو تكيف مع الواقع وما نراه من حالات وئام تعزى إلي أن الشريك وجد في شريكه الإخلاص أو التضحية أو أي صفة من الصفات التى تقربه إليه وتدفعه للاستمرار دون حاجة لمعنى الحب .. بل أن هناك حالات أو كما يعبر العالم الأمريكي إن هناك مجتمعات تمثل الحب لأن توقفه يحمل داخلها معنى "الفضيحة" فتجد الزوجة تلعب دور المحبة لزوجها لأن هذا فقط يرضي المجتمع وكذلك الزوج أحياناً. ومهما كانت دقة الأبحاث التى أجراها العلماء وسلامة النتائج فلن ألقي إليها بالا وسأرفع صوت عبد المطلب وأغنى معه "حبيتك وباحبك وحاحبك علي طول" .. فهو أجمل من صوت روبنسون لأنه صوت .. قلبي))
وانتهت الأستاذة "منى نشأت" من المقالة بذلك الصوت النابض باستمرارية الحب في القلوب رغم كل شئ. ( جريدة الجمهورية – يوم السبت 17/5/2003)
وسيظل الحب هو الحقيقة الأكيدة مهما قيل عن ندرة العواطف أو تغيرها .. ومهما تغيرت القيم بتغير الأزمان .. فالحب هو القيمة الوحيدة التى لن تتغير ولن تتأثر بأي تغيرات .