لين الجوارح لين لسيدها
وحين أقف عند هذا المشهد الثالث، وذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه، فيرشده إلى أن يمسح على رأس اليتيم، إن قصد الإنسان بيت اليتيم، وسعيه، وكل خطوة يخطوها ابتغاء الأجر والثواب فيها ترقيق للقلوب، وإن سعي الجوارح للخير دائما فيه ما يلين ذلك القلب، وإن كان القلب هو ملاك الإنسان كله، فإن الجوارح العاملة بالخير تجعل سيدها في أحسن هيئة، وأفضل حال، بل تجبره على أن يكون حسنا كما الجوارح حسنة، فسعي القدم إلى بيت اليتيم، والجلوس معه، والحنو عليه، بمد اليد إلى رأسه، والمسح على شعره تعويضا له عن حنان الوالد الذي فقده، وأثر ذلك على قلب الطفل اليتيم من الراحة والطمأنينة والسكينة، فكان الجزاء من جنس العمل، راحة للبال، ولينا للقلب، وسعادة للنفس، وكما قال ربنا: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
صدقة المشاعر
إن التصدق بالمشاعر، والتبرع بالأحاسيس، وعمل القلب قبل عمل الجوارح يزيل سواد القلب، وينظف ما داخله من دخن، ويخلصه مما شابه من سوء الفعل والقول، وكأن المسح على رأس اليتيم تجديد لنشاط القلب من جديد، وتخلية له من سواده، وتحلية له بعمل هو من أحب الأعمال إلى الله تعالى.
كما أن المسح على رأس اليتيم قد يدفع الإنسان إلى أن يزيد في هذا العمل، فربما كانت صدقة المشاعر دافعة لصدقة الأموال، فقد يصحب الزيارة تصدق بطعام أو شراب، أو كساء جديد لليتيم، أو صدقة من المال له، فيجمع الإنسان بين صدقة القلب وصدقة الجوارح، فيكون كل ما في الإنسان مشغولا بطاعة الله تعالى، والإحسان إلى الغير. وإن كان لين القلب كجائزة من الجوائز الكبيرة، فإن هذه الجائزة قيمة؛ لأن الفعل الذي قام به المسلم ليس محصورا على نفسه، بل تعدى نفعه إلى الغير، وأي غير ينتفع به مثل اليتيم؟! فالذكر يلين القلب، ولكن ليس كالمسح على اليتيم؛ لأن المسح على رأس اليتيم ترجمة للذكر الصادق، بل هو ذكر عملي، كما قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). وأن من ذكر الله، ذكره الله تعالى، ذكره باللسان، كما جاء في الحديث:" أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه"، أو ذكره بفعله، بإتيان ما افترض الله تعالى في المقام الأول، ثم بفعل الطاعات غير المفروضة، والتي هي سبيل من سبل محبة الله تعالى، ورفعة الإنسان عنده سبحانه، وخاصة فيما يتعلق بالإحسان إلى الغير. وإذا كان الشاعر الحكيم قد قال: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ولطالما استعبد الإحسان إنسانا فإن قصد الإنسان بالإحسان إلى الغير، نزل في قلب ذلك الغير منزلة حسنة، ووهبه الله تعالى لين قلبه وخشوعه. وفي الحديث إشارة لطيفة إلى أن أعمال الإيمان ليست محصورة على العبادات وحدها، وإن كانت العبادات تأتي في القمة؛ فهناك من الأعمال ما يجب أن تصاحب العبادات، وخاصة فيما يتعلق بالسلوك والمعاملة مع الغير، ابتغاء رضوان الله تعالى.
جائزة للجميع
وهذا الحد الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من مسح شعر اليتيم هو الحد الذي لا يستعصي على أحد، ويمكن أن يقوم به كل أحد، فمسح شعر رأس اليتيم يجلب لين القلب، أما كفالة اليتيم، فثوابها صحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم:" أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. (رواه البخاري)، ومع كون العمل الذي يقوم به الإنسان قليلا، لكن يقابله الثواب الكبير في الدنيا، من رقة القلب، ومن مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، والسر في ذلك هو اليتيم، وكأن في اليتيم أسرارا يجب أن ننتبه إليها، وأن يتوجه المجتمع المسلم إلى هذا اليتيم، ليعوضه عما فقد من والده، حتى لا يشعر اليتيم بيتمه، فإن كان غير اليتيم معه والد واحد، فإن الإسلام يأمر أن يكون مع اليتيم آباء كثر، بل شجع على هذا بما لا يدع مجالا للتخلف عن الحصول على جائزة الله، وما يعرض عن هذا إلا قاسي القلب. ولعلها دعوة لعلماء النفس أن يفسروا لنا، احتكاك الأصابع بشعر رأس اليتيم، وأثر ذلك نفسيا على كل من اليتيم ومن مسح على رأسه، فربما ساعدنا ذلك على تفهم سر لين القلب، لنكون أكثر فهما واطمئنانا لشرع ربنا. يتعرض الطفل لمفهوم الموت بشكل يومي، سواء بشكل واقعي من خلال موت أحد الأقارب أو الأصدقاء أو حتى حيوان أو نبات. أو من خلال شاشات التلفزيون التي تعج بأخبار الدمار والقتل. وقد يتعرض له بشكل وهمي من خلال أفلام الكارتون التي تركز على العنف والقتل والخراب. من تلك المواقف تتكون لدى الطفل عدة تساؤلات عن هذا المفهوم وسببه وغايته ومصير الموتى إلى غير ذلك، وإذا أجيب على أسئلته هذه بطريقة مناسبة، فإنه يهدأ ويرتاح معرفيًّا ونفسيًّا، وبالرد على أسئلته بما يناسب سنّه نستطيع حمايته من المخاطر التي تتولد من صدمة الموت إذا ما حلّ قريبًا منه.
تطور مفهوم الموتوحتى يسهل تواصل المربين مع الأطفال، لا بد أن يدركوا خصائص كل مرحلة من مراحل نمو الطفل بصفة عامة وخصائص تطور المفاهيم عنده بصفة خاصة، حتى يتمكنوا من التعامل معه على قدر نموّه المعرفي والاجتماعي. والموت بالنسبة للطفل يتميز بعدة خصائص، منها أنه: - غير طبيعي: فلا يموت الإنسان بدون سبب أو لأن أجله انتهى، بل يجب أن يكون هناك سبب وراء ذلك. - مُعْد: قد ينتقل إلى الأشخاص الآخرين مثل الأمراض المعدية. - ذو صفة انعكاسية: أي أن الميت يعود للحياة؛ لأن الطفل ببساطة يحتاج إليه. المرحلة الأولى: من الولادة إلى ثلاث سنوات: يتخذ الموت عند الرضيع شكل الفراق فقط، أي مفارقة الشخص، وهذا يحدث لديه ما يسمى بقلق الفراق، وهو يتكون من ثلاث مراحل: الاعتراض واليأس، ثم الانفصال وعدم التعلق. فالطفل ينتظر عودة الوالدين بشيء من الغضب والخوف؛ لأن الموت بالنسبة له غير موجود وهو مواز لمفهوم الغياب، والطفل في هذه المرحلة ذو تفكير (عياني) لا يثيره إلا الغياب الجسدي ولا يستطيع تصور فراق لا يمكن معالجته. المرحلة الثانية من ثلاث إلى ست سنوات: فيها يصل الطفل إلى إدراك مفهوم الموت، لكن مع الاعتقاد أنه لا يصيبه ولا يصيب من يحبهم؛ لأنه يعتقد أن حبّ والديه سيحميه من الموت وأن حبه سيحمي من يحبهم. كما يعتقد أن الموتى سيعودون للحياة، فمفهوم الموت والحياة لم يصبحا بعد متناقضين عنده. المرحلة الثالثة من ست إلى عشر سنوات: في هذه المرحلة يكتسب مفهوم الموت عند الطفل طابع اللاعودة، فالطفل يستطيع في هذه الفترة فهم ما يقال له عن الموت، كما يستطيع الحديث عن الموت ويفهم أن الموت شيء حتمي لكل إنسان. يبدأ الطفل في هذه المرحلة في التعامل مع ما يسمى بقلق الموت، فقد تحدث له رؤية موت حيوان ما مواجهة شديدة مع الموت. المرحلة الرابعة من 10 إلى 13 سنة: في هذه المرحلة يتطور فكر الطفل من الفكر (العياني) إلى الفكر المجرد، مما يخول له التفكير في معنى الحياة ويبدأ في طرح تساؤلات حول الموت وحول موته وموت والديه. من خلال تسلسل هذه المراحل نرى أن مفهوم الموت بشكله الصحيح لا يكتسبه الطفل إلا متأخرًا نسبيًّا، حيث لا يبدأ بالتعامل معه بشكل معمق إلا بعد سن العاشرة، لكن هذا لا يعني أن الطفل كان يجهل المفهوم قبل ذلك، بل بالعكس، فهو يشكّل له خبرة مزعجة، حيث يرتبط عنده بالغياب والانفصال في المراحل المبكرة من حياته. إن الطفل وهو يمارس لعبة التظاهر بالموت أو لعبة رمي أحدهم برصاص مسدسه، إنما يرسل رسالة للمحيطين فحواها "إني أرغب في معرفة الرابط بين الموت والحياة". إذن فكيف نحقق للطفل رغبته ونشبعها له قبل أن يجد نفسه وجهًا لوجه أمام الموت