رد شبهة الظاهر والباطن
الدكتور عادل عامر
ورث الصوفية عن الشيعة فكرة تقسيم الشريعة إلى ظاهر وباطن, وعام وخاص، والقول بأنه لا بدّ لكل محسوس من ظاهر وباطن, فظاهره ما تقع الحواسّ عليه, وباطنه يحويه ويحيط العلم به بأنه فيه, وظاهره مشتمل عليه. وهم في ذلك يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبًا وزورًا ويدعون أنه قال: (ما نزلت عليّ آية إلا ولها ظهر وبطن, ولكل حرف حدّ, ولكل حدّ مطلع). ويقسمون الظاهر والباطن بين النبي والوصيّ ويقولون: "كانت الدعوة الظاهرة قسط الرسول صلوات الله وسلامه عليه , والدعوة الباطنة قسط وصيّه الذي فاض منه جزيل الإنعام". ومن أصولهم الفاسدة أن الظاهر هو الشريعة, والباطن هو الحقيقة, وصاحب الشريعة هو الرسول محمد صلوات الله عليه, وصاحب الحقيقة هو الوصيّ عليّ بن أبي طالب، ثم الأولياء والأوصياء من بعده. بل إنهم أسرفوا في فسادهم فجعلوا العلوم ثلاثة: ظاهر, وباطن, وباطن الباطن, كما أن الإنسان له ظاهر, وباطن, وباطن الباطن، فعلم الشريعة ظاهر, وعلم الطريقة باطن, وعلم الحقيقة باطن الباطن. وتقسيم الصوفية العلم إلى علم شريعة وحقيقة، أو علم ظاهر وباطن، أو ما يعرف بـ"العلم اللدني"، تقسيم لا أساس له من الصحة، وما أنزل الله به من سلطان، ولم يؤْثَر عن عَلَم من الأعلام، وإنما اخترعه الشيطان على أوليائه ليلبس عليهم، وليتمكن من إضلالهم. لقد زعموا أن العلم اللدني يلقن تلقينًا، ولا يحتاج إلى تعليم، ومعلوم من دين الله أن العلم بالتعلم، ولو كان العلم بالتلقين لناله سيد البرية محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن علَّمه جبريل عندما قال له: [اقرأ]، قال: [ما أنا بقارئ..]، قال: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] العلق:1، الحديث. وعمدتهم في هذا التقسيم قصة الخضر مع موسى عليه والسلام، وقوله تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا] الكهف:65، وليس في ذلك أدنى دليل. والقول الراجح أن الخضر نبي من الأنبياء، وأن الله أوحى إليه بأمور لم يوحها لكليمه موسى، ولهذا قال في نهاية القصة: [وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي] الكهف:82. والحق كذلك أن الخضر مات، ولو كتب الله الخلود لأحد لكتبه لخاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم: [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ] الأنبياء:34. والحقيقة الصوفية ليست عقلية ولا شرعية؛ بل هي ذوقية تمثل حالات انحراف النفس البشرية. ومعلوم أن النفس معرضة للانحراف كما أخبر تعالى: [ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها] الشمس: 7. وقد فطر الله للنفس ضابطاً ينظم أفعالها هو العقل. وعلى الرغم من دقة جهاز العقل وإحكام نظامه إلا أنه غير كاف ولا واف لصلاح الدنيا وفلاح الأخرى، وذلك لنقصانه في ذاته، ولعجزه في وظيفته بسبب اعتماده على الحواس القاصرة، مما يعرضه للوهم في التصور، والخطأ في الحكم. ولقد أدرك الله الإنسان بنعمته فأكمل نقصه، وأتمَّ قصوره، فأنزل عليه شرعاً مكتوباً لا خيرة له فيه، ولا عدول منه عنه: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً] المائدة: 3، [ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون] الجاثية: 18، [هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون] الجاثية: 20. وبهذا أصبحت نفس الإنسان محاطةً بسورين محكمين، أو محمية بحصنين منيعين، هما: العقل الفطري، والكتاب الشرعي، والحماية في غاية الأهمية للإنسان، كي يتمكن هذا الإنسان من أداء ما يجب عليه من تكليف ومسئولية. أما زوال الحماية بإلغاء العقل أو الشرع فيعني ترك الباب مفتوحاً ليدخل ألدّ الأعداء- إبليس وجنوده من الشياطين، الذين يقومون باحتلال نفس الإنسان وتوجيهها واستعبادها. وفي قضية الظاهر والباطن نجد المتصوفين يتدرجون في الانسلاخ من الظاهر حتى الانتقال الكامل إلى الباطن. فهم يتجردون ويتعرون، لتقع نفوسهم تحت تأثير مختلف القوى، فتكون نفوسهم أشبه بجهاز استقبال، يلتقط من مختلف العوالم كل بث وإرسال .. ومن ذا الذي يمنع إبليس وشياطينه في مثل هذه الحال أن يحتالوا ما شاءوا، فلا دافع من عقل، ولا مانع من شرع، ولا حسيب ولا رقيب. إن المتصوفين يمارسون عملية خطرة في إلغاء العقل، وأخطر من ذلك عملهم في إلغاء الشرع، وما يثبتونه منه يدخل أحد بابي الإفراط والتفريط، وما يتعلقون به في جانب غالباً ما يكون على حساب الحب والرجاء في البداية، ثم عكس الأمر في النهاية. وهم خلال الرياضيات والخلوات يترقبون التلقين والإلهام في اليقظة والمنام، ورؤاهم ورموزهم محكومة بالذوق الشخصي، والتأويل الإشاري الباطني على نحو صنيع الكهان والسحرة والشعراء. إن الاتصال بالقوى الخفية الغيبية هو مخالف للدين الذي يقرر عداوة الشياطين، ويحذر من وسوتهم ومسهم وهمزهم ونفثهم ونفخهم. ثم إن المقارنة بين المتصوفين وبين الخضر عليه السلام للاحتجاج بـ "العلم اللدنِّي" الذي لا يحتاج فيه صاحبه إلى التعليم، هو قياس فاسد لأنه يؤدي إلى تعطيل الأسباب المشروعة والسنن الموضوعة، مع نسبة المخالفات الشرعية إلى العبد الصالح كقتل الغلام قبل البلوغ، وخرق السفينة لغرقها، مع إنه إنما كان يؤدي مهمته، ويقوم بوظيفته كما أخبر هو عن نفسه: وما فعلته عن أمري. ومحاولة المتصوفة إثبات مقولتهم الفاسدة عن علم الظاهر وعلم الباطن أمر شديد السلبية في مردوده على الأمة، لأنه يؤدي إلى تحويل أمة الإسلام إلى أمة سلبية، لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر، تعيش على التزهد والاتكال حتى تبيد وتفنى، وهذا الهدف الرئيسي الذي من أجله وضع التصوف، وشارك في وضعه ونشره والدعوة إليه أكبر خصوم الإسلام وأعدائه من زنادقة اليهود وساعدهم على ذلك أغرار المسلمين وجهالهم مع شديد الأسف. وهذه العقيدة الفاسدة أيضًا تؤدي إلى استباحة المحرمات وغشيان كبائر الإثم والفواحش وبخاصة المشائخ من رؤساء الطرق تسترًا تحت شعار قولهم: الحقيقة غير الشريعة، إذ يجوز لصاحب الحقيقة ما لا يجوز لصاحب الشريعة في حكمهم وما تقتضيه أصولهم. كما أنها تؤدي إلى صرف المسلمين عن العلوم الشرعية وتزهيدهم فيها، وشغلهم بما يسمونه بالعلوم الباطنية الخيالية. وفهم السلف لنصوص الكتاب والسنة هو الميزان الذي يفرق بين الحق والباطل وهو العاصم من الفتن وهو طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وقد خالف الصوفية هذا الأصل وبنوا على قصة موسى والخضر قاعدة الشريعة والحقيقة المزعومة وما أوقعهم في ذلك إلا فهمهم الفاسد للنصوص. فقصة الخضر مع موسى عليه السلام، ليس فيها خروج عن الشريعة وأمثال هذه القصة تَقَعُ كثيرًا للمؤمنين كأن يختص أحد شخصين بعلم سبب يبيح له ذلك والآخر لا يعلم ذلك السبب وإن كان أفضل منه. ولفظ الشرع والشريعة إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحدٍ من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقًا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا فلم يتابعه باطنًا وظاهرًا فهو كافر، ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطًا من وجهين: أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة إلى جميع الثقلين الجن والإنس، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر، سواء كان نبيًا أو وليًا؟ ولهذا قال الخضر لموسى: "أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه". وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا. الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفًا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك، فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفًا من الظالم أن يأخذها إحسانًا إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا. فكيف يحتجون على هذا الباطل بخرق الخضر عليه السلام للسفينة، وقتله الغلام الزكي، وإقامته لجدار اليتيمين؟ وإنكار موسى عليه، ويقولون: إن موسى كان من أهل الظاهر، فأنكر، والخضر من أهل الباطن، فأقر، وما دروا أن الخضر فعل ما فعل بأمر الله ووحيه إليه حسب شريعته التي تعبده الله تعالى بها وأن موسى أنكر لأن ما فعله الخضر لا يجوز في شريعة موسى التي تعبده الله تعالى بها كما علمت. ولهذا لما قال له الخضر: إني على علم مما علمني الله، وأنت على علم مما علمك الله، فسكت موسى واطمأن، إذ كانت الشرائع تتعدد بتعدد الرسل، ولم تجتمع الشرائع إلا في شريعة الإسلام حيث نسخ الله كل ما سبقها من الشرائع التي جاءت بها الرسل قبل النبي خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك بطل العمل بغير شريعة الإسلام التي ظاهرها هو باطنها وباطنها هو ظاهرها، شريعة واحدة لا ثانية لها ولا ثالثة.