شبهة التعارض بين القرآن والعقل السليم
اعتاد العلمانيون والمعادون للفكرة الإسلامية ازدراء الإسلاميين ومناهجهم وطرق تفكيرهم بل وثقافتهم كلها والأسس التي تقوم عليها هذه الثقافة. ويحلو لهؤلاء إقامة التناقض بين العقل والنقل عند المسلمين، فهم يقولون إن العلم الحديث والثقافة الحديثة وطرق التفكير المبدعة كلها مكتسبة عن طريق العقل الذي لولاه ما قامت الحضارة الحديثة، وهذا العقل يتناقض مع منهج النقل (القرآن والسنة) الذي يقوم على نصوص ثابتة لا تتغير مهما تغير الزمن، وأنها إن كانت تناسب فترة زمنية من عمر البشرية، أو بيئة عربية صحراوية، فإنها لا تناسب بقية العصور والبيئات. وفي رأي هؤلاء العلمانيين فإن جميع علماء الأمة بدون استثناء غير مؤهلين؛ لأنهم اعتمدوا على النقل وليس التفكير، وأنه يجب التفكير في كل أمور الدين، في الأصل قبل الفرع، وإلغاء كل الأساسيات الموجودة التي تعتبرها الأمة من المسلمات وثوابت، والبحث من جديد عن الحقيقة، معتمدين على العقل فقط. وقد غاب عن هؤلاء أن مقام العقل في الإسلام هو مكان عال وفريد، ولا نظير له في الشرائع السابقة، فهو في الإسلام هو مناط التكليف بكل فرائض وأحكام الدين. كما أن القرآن معجزة عقلية، ارتضت العقل حكمًا في فهمها وفي التصديق بها، وفي التمييز بين المحكم والمتشابه في آياتها، وأيضًا في تفسير هذه الآيات، فليس للقرآن كهنوت يحتكر تفسيره، وإنما هو ثمرة لنظر عقول العلماء المفسرين وبينما كانت معجزات الرسالات السابقة معجزات مادية، تدهش العقول، فتشلها عن التفكير والتعقل، جاء القرآن معجزة عقلية، تستنفر العقل كي يتعقل ويتفكر ويتدبر، وتحتكم إليه باعتباره القاضي في تفسير آياتها. وهكذا كان النقل الإسلامي سبيلاً لتنمية العقلانية الإسلامية. والعقل – في الإسلام – هو سبيل الإيمان بوجود اللَّـه ووحدانيته وصفاته، لأن الإيمان باللَّـه سابق على التصديق بالرسول وبالكتاب الذي جاء به الرسول؛ لأنه شرط لهما، ومقدم عليهما، فالتصديق بالكتاب (النقل) متوقف على صدق الرسول الذي أتى به، والتصديق بالرسول متوقف على وجود الإله الذي أرسل هذا الرسول وأوحى إليه، والعقل هو سيبل الإيمان بوجود اللَّـه، عن طريق تأمل وتدبر بديع نظام وانتظام هذه المصنوعات. وإقامة تضاد وتعارض بين النقل والعقل إنما هو أثر سلبي من سلبيات الحضارة الغربية، لأنها عرفت لاهُوتًا كنسيًّا – نقلاً – لا عقلانيًّا، فجاءت عقلانيتها، في عصر النهضة والتنوير الوضعي العلماني، ثورة على النقل اللاعقلاني ونقضًا له، أما في الإسلام، فإن النقل لم يكن أبدًا مقابلاً للعقل؛ لأن المقابل للعقل هو الجنون، وليس النقل، ولأن النقل الإسلامي (القرآن الكريم) هو مصدر العقلانية المؤمنة، والباعث عليها، والداعي لاستخدام العقل والتفكر والتدبر في آيات اللَّـه المنظورة والمسطورة جميعًا. إن آيات القرآن التي تحض على العقل والتعقل تبلغ تسعًا وأربعين آية، والآيات التي تتحدث عن اللُّب بمعنى عقل وجوهر الإنسان، هي ست عشرة آية، كما يتحدث القرآن عن النُّهى بمعنى العقل في آيتين، وعن الفكر والتفكر في ثمانية عشرة موضعًا، وعن الفقه والتفقه بمعنى العقل والتعقل في عشرين موضعًا، وعن التدبر في أربع آيات، وعن الاعتبار في سبع آيات، وعن الحكمة في تسع عشر آية، وعن القلب كأداة للفقه والعقل في مائة واثنين وثلاثين موضعًا، فضلاً عن آيات العلم والتعلم والعلماء التي تبلغ في القرآن أكثر من ثمانمائة آية. وهكذا فإن النقل الإسلامي هو نفسه الداعي للتعقل والتدبر والتفقه والتعلّم. لكن العقل، مهما بلغ التعقل والمعرفة والحكمة، فهو ملكة من ملكات الإنسان، وكل ملكات الإنسان محدودة، أما معارف الغيب اللامحدودة فإن سبيل معرفتها هو النقل، أي الوحي. وهكذا فإن الإسلام لا يعرف هذه الثنائية المتناقضة بين العقل والنقل، وصريح المعقول لا يمكن أن يتعارض مع صحيح المنقول، ولا معاندة بين الشرع والمنقول والحق المعقول، ومن ظن وجوب الجمود على التقليد وابتاع الظواهر، فما دفعه لذلك إلا ضعف العقل وقلة البصيرة، أما من على في العقل حتى صادم به قواطع الشرع، فإنه ما فعل ذلك إلا من خبث الضمير، فمال أولئك إلى التفريط، ومال هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط. والعلاقة بين العقل والنقل علاقة تكامل وتآخي، فالنظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع، لأن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له، فالحكمة هي صاحبة الشريعة، والباب مفتوح على مصراعيه أمام العقل في سائر ميادين عالم الشهادة، وهو سبيل الفقه والفهم والتكليف في الشرع والدين. لكن لابد من مؤازرة الشرع والنقل للعقل فيما لا يستقل العقل بإدراكه من أخبار عالم الغيب والحكم والعلل من وراء بعض أحكام العبادات في الدين. وما يبدو من تعارض عند البعض أحيانًا بين العقل والنقل، إنما هو تعارض بين العقل وبين ظاهر النقل. وإذا كانت البداهة والخبرة والبشرية والحكمة تقول: إن من مبادئ الدين والشرائع ما لا يستقل العقل بإدراك كنهه وحقيقة جوهره، فكيف يجوز لعاقل أن يدعو إلى تحكيم العقل وحده في كل أساسيات الدين؟! فليس هناك عاقل يحكم العقل فيما لا يستقل العقل بإدراكه من مبادئ الشرائع والمعجزات، وكنه وجوهر وحقائق المغيبات، وليس هناك عاقل يغفل أو يتغافل عن مكانة ودور العقل في دين الإسلام، وإدراك وظيفة العقل وميدان عمله وحدود قدراته، هو لب الاحترام للعقل، وليس فيه انتقاص من سلطانه، الذي تألق في دين الإسلام وفكر المسلمين.