المصادرة في الفقه القانوني والإسلامي
الدكتور عادل عامر
مصادرة الأملاك والأموال ليست أمرًا جديدًا، ولكنه أمر معتاد في أنحاء كثيرة من العالم، فالظاهرة لها جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول التي تلجأ لمثل هذا الإجراء، كما كانت هذه الظاهرة سلاحًا باترًا عبر التاريخ يُستخدم ضد منافسي الحكام المستبدين؛ لذلك كانت وما زالت المصادرات أداة من أدوات السلطة ومظهر من مظاهر تدهور الحكم. وقد كانت الأسباب الاقتصادية أحد أهم البواعث الأساسية وراء اتخاذ كثيرٍ من الحكام سياسة المصادرات للأملاك والأموال، فكلما كان اقتصاد الدولة قويًّا وثابتًا يعم الرخاء والاستقرار الجميع، أما إذا كان العكس فيسود الظلم وتُضار مصالح العامة فيلجأ العجزة من الحكام المفسدين إلى سياسة المصادرة لملء خزانة الدولة الخاوية أو لسداد متأخرات أو قروض عليها، ولم يجهد هؤلاء الحكام أنفسهم في معالجة هذا الوضع. وسياسة المصادرات من أقسى صور الظلم والتعسف المجافي للعدالة ودليلٌ على فساد الإدارة والسلطة الحاكمة، خاصةً إذا كانت وراءها أسباب سياسية وأصحابها من الشرفاء. والمصادرات ينتج عنها انحطاط وزوال للفكر المبدع، واندثار للعديد من المهن وإغلاق العديد من المتاجر والأسواق، مما يؤدي إلى فقدان الولاء ولجوء المتضررين من العامة للانتقام والاقتصاص من الدولة للضرر الواقع عليهم من جرَّاء هذه السياسة. والمصادرات قد تكون سلاحًا رادعًا لمُثِيري للفتن والمتهمين بالخيانة والفارين من أعمالهم والمقصرين في واجباتهم والمختلسين والمُتلفين لمال الدولة أو لعملتها ومرتكبي الجرائم الأخلاقية والاجتماعية.
المصادرة في القانون الوضعي
المصادرة التي ينص عليها قانون العقوبات المصري في المادة 30 منه تعني تملك الحكومية للأشياء المتحصلة من الجريمة والآلات والتي استعملت أو التي من شأنها أن تستعمل. والمصادرة العامة محظورة وهي تملك الدولة كل أموال المحكوم عليه للشك في أنها متحصله من جرائم. وأورد القانون المصادرة بين العقوبات التبعية ( المادة 24 عقوبات ) غير أن المصادرة ليست واحدة في كل الأحوال وهو ما يظهر من ظاهر نص (المادة 30 عقوبات) فهناك نوعان :- النوع الأول : مصادرة كعقوبة الغرامة التي تؤدي عيناً متى وقعت على أشياء لا خطر منها ولا جريمة في حيازتها – فهي أشبه بالغرامة لأنها تؤدي عيناً بتملك الحكومة للأشياء المتحصلة من الجريمة والأدوات التي استعملت فيها ومن ثم فهي بهذه الصفة لا يجوز توقيعها إلا يحكم قضائي تبعاً لعقوبة أصلية . النوع الثاني : مصادرة كإجراء يقتضيه النظام العام متى وقعت على أشياء تعد حيازتها جريمة في ذاتها أو على أشياء ضارة أو خطرة أو حرمت حيازتها بصفة مطلقة أو نسبية للحائز لها كالمأكولات الفاسدة والمشروبات التالفة ... الخ ، وتكون للمصادرة في هذه الحالة صفة عينية لا شخصية ومن ثم لا يهم شخص المالك فهي تقع على الشيء ذاته . وأياً كان نوع المصادرة فلا يجوز تطبيقها إلا بحكم قضائي في الأحوال التي بينها القانون وبمناسبة جريمة من الجرائم فقد جاءت المادة 30عقوبات بنص عام يجيز الحكم في مواد الجنايات والجنح بمصادرة الأشياء المضبوطة التي تحصلت من الجريمة وكذا الأسلحة والأدوات المضبوطة التي استعملت فيها. أما المخالفات فلا يجوز الحكم بالمصادرة إلا في الأحوال المنصوص عليها قانوناً (المادة 31 عقوبات). كما أوجبت المادة 30 عقوبات في فقرتها الثانية المصادرة الوجوبية في جميع الأحوال فيما يتعلق بالأشياء التي تعد حيازتها جريمة في ذاتها. أما عن الأشياء القابلة للمصادرة فهي طبقاً لما جرى به نص المادة 30 عقوبات تشمل نوعين: النوع الأول : الأشياء التي تحصلت من جريمة وهي تشمل جسم الجريمة كالنقود المقلدة أو المزورة في جريمة تزييف المسكوكات والأسلحة في جريمة حمل السلاح بدون ترخيص ، كما تشمل الفائدة الناتجة عن الجريمة أي الأشياء والأموال المتحصلة منها كالمبالغ والهدايا التي يأخذها الموظف العمومي كرشوة. النوع الثاني: الأسلحة والآلات التي استعملت في الجريمة أو التي من شأنها أن تستعمل فيها كالأسلحة المستخدمة في جرائم القتل والضرب وغيرها والأدوات التي استخدمت في جرائم المخدرات كالمراكب والسيارات والحيوانات … الخ. ولا تقع المصادرة إلا على الأشياء المضبوطة سواء كانت متحصله من الجريمة أو من أدواتها فلا مصادرة بغير ضبط . وقضت محكمة النقض بأن عقوبة المصادرة هي تلك العقوبة التكميلية لا يقضى بها بحسب القاعدة العامة الواردة بالمادة 30 عقوبات إلا فيما يتعلق بالأشياء المضبوطة التي تحصلت من الجريمة . وعليه فإنه لا يوجد ما يمنع من مصادرة العقار في الأحوال التي يجوز فيها ذلك إذا كان متحصل من جريمة كما إذا أخذ مقابل رشوة أو مقابل تجارة مخدرات …. الخ - إلا أنه يجب مراعاة حقوق الغير حسن النية فلا يجوز أن تخل المصادرة بحقوقهم ما دام لم يثبت إدانتهم.
الدساتير الحديثة تحمي المال العام
وقد لجأت الدساتير العربية الحديثة إلى حماية المال الخاص والملكية الفردية. فالدستور اليمني ينص في المادة 19 على أن: (للأموال والممتلكات العامة حرمة وعلى الدولة وجميع أفراد المجتمع صيانتها وحمايتها وكل عبث بها أو عدوان عليها يعتبر تخريبا وعدوانا على المجتمع، ويعاقب كل من ينتهك حرمتها وفقـاً للقانـون). وينص في المادة 20 على أن: (المصادرة العامة للأموال محـظورة، ولا تجـوز المصادرة الخاصة إلا بحكـم قضائــي). وفي النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية، تنص المادة الثامنة عشرة على أن: (تكفل الدولة حرية الملكية الخاصة وحرمتها.. ولا ينزع من أحد ملكه إلا للمصلحة العامة على أن يُعوض المالك تعويضاً عادلاً). وتنص المادة التاسعة عشرة على: (تحظر المصادرة العامة للأموال ولا تكون عقوبة المصادرة الخاصة إلاّ بحكم قضائي). الشريعة تحرم المصادرة إنَّ من أهم مقاصد الشريعة حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال لقوله تعالى: [لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] النساء: من الآية 29, ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام), وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)، فمن أهم حقوق الإنسان في الإسلام تحريم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي، فللمسكن حرمته في كل حال، ولا يجوز دخوله بغير إذن أهله أو بصورةٍ غير مشروعة، ولا يجوز هدمه أو مصادرته أو تشريد أهله منه، ولكل إنسان الحق في أن يعيش آمنًا على نفسه ودينه وأهله وعرضه وماله، هذا ما جاء في إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام الصادر عن المؤتمر الإسلامي التاسع عشر لوزراء الخارجية في (القاهرة 14 محرم 1411 هـ/ 5 أغسطس 1990م).