جرائم ضد الإنسانية
الدكتور عادل عامر
على مدار التاريخ العالمي وفي وقت الحروب والنزاعات المسلحة، فقدت البشرية ملايين من المدنيين الأبرياء الذين قتلوا في هذه الحروب والنزاعات دون أن يشتركوا فيها أو يكونوا مسئولين عنها. وفي التاريخ الحديث أوقعت الحروب التي نشبت في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى، آلاف القتلى من المدنيين الأبرياء، وارتكب العسكريون المحاربون العديد من الجرائم ضد الإنسانية. وجاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914، والتي استمرت لخمس سنوات ليسقط خلالها ملايين البشر من المدنيين والعسكريين، قتلى وجرحى نتيجة لهذه الحرب الشرسة، ولتضيف لتاريخ البشرية مزيدا من المآسي والكوارث والنكبات والجرائم ضد المدنيين الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة ولا دخل لهم في صنع قرار الحرب، في ظل غياب القوانين الدولية الواضحة التي تمنع التعرض للمدنيين الأبرياء. ولم تكد الإنسانية أن تلتقط أنفاسها، مما خلفته الحرب العالمية الأولى من دمار وخراب، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، والتي أبادت الملايين من البشر، وبخاصة الضحايا المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ، ممن لم يكن لهم أي دور أو مشاركة في قرار الحرب، مما أدى إلى ضرورة قيام المفكرين والفقهاء والعلماء ورجال السياسة إلى عقد اجتماعات مطولة، وإجراء مفاوضات بين الأطراف الدولية، بهدف مواجهة كوارث الحروب والحد منها، ووضع قواعد وأسس لتنظيم الحرب بين الأطراف المتنازعة، وحماية المدنيين أثناء هذه الحروب. وكان من نتيجة هذه الاجتماعات والمفاوضات أن تم عقد محاكمتين دوليتين عام 1945، الأولى، كانت في مدينة نورمبرغ في ألمانيا، والثانية في طوكيو في اليابان، وقد تم في كلا المحاكمتين، محاكمة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم الحرب ضد المدنيين الأبرياء، حيث أرست هذه المحاكمات كثيراً من القواعد والأسس والأحكام، للاتفاقات والمعاهدات التي تم توقيعها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فبعد حوالي أربع سنوات من توقيع ميثاق الأمم المتحدة، عقد مؤتمر جنيف لتدعيم قواعد القانون الدولي بشأن ضحايا الحروب من المرضى والجرحى ومعاملة الأسرى من القوات المسلحة وحماية المدنيين أثناء الحروب. وأسفر المؤتمر عن توقيع أربعة اتفاقيات بتاريخ 12 أغسطس 1949، والتي اصطلح على تسميتها " بالقانون الدولي الإنساني " وكان أبرزها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية الأفراد المدنيين أثناء الحرب، وحماية المدنيين في الأراضي التي تعيش حالة الاحتلال العسكري. فقد نصت المادة 32 من اتفاقية جنيف الرابعة على " منع سلطات الاحتلال من القيام بتدابير من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المدنيين الموجودين تحت سلطتها. ولا يقتصر هذا الحظر على القتل والتعذيب والعقوبات البدنية والتشويه والتجارب الطبية العلمية، ولكنه يشمل أيضا أي أعمال وحشية أخرى، سواء قام بها وكلاء مدنيون أو وكلاء عسكريون". ومنذ ذلك التاريخ اعتبر القانون الدولي، أن مرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد المدنيين الأبرياء، يجب أن يقدموا إلى المحاكمة لمعاقبتهم على أفعالهم الإجرامية، والتي عبرت عنها العديد من المعاهدات والاتفاقات الدولية التي تنضوي تحت مظلة الأمم المتحدة. وقد تم تقديم الديكتاتور التشيلي بينوشيه لمحاكمة دولية جراء ما اقترفه من مذابح ومجازر ضد شعبه أثناء حكمه. وقامت محكمة جرائم الحرب الدولية بمحاكمة سلوبودان ميلوسيفتش، رئيس يوغسلافيا السابق، لجرائمه ضد الإنسانية التي ارتكبها هو وأركان نظامه، في البوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو. وكذلك حكام رواندا، الذين ارتكبوا جرائم وحشية بحق المدنيين الأبرياء والتي راح ضحيتها آلاف الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ. أما بالنسبة للشريعة الإسلامية، فقد حرص فقهاء الإسلام على تلازم الفقه والواقع، حتى أصبح فقههم يمشي على وزن واقعهم.وانطلاقا من قول الله تعالى (وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190]، تضافرت نصوص الشريعة من أجل تأمين الحماية الضامنة لأصل تكريم بني آدم، الذي أشار إليه قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء:70]، ولفظ التكريم جامع لمعنى العناية وضوابط الحماية، وهو من قبيل الخبر الذي يقتضي الصدق من قائله، ومن كذب بصدق التكريم كذب بصدق الوحي واستحق الوزر. والتعدي في الآية الكريمة، يعني الظلم وتجاوز الحد والحق، وأعلى مراتب تلك العداوة انتهاك الحرمات الماسة بحياة الناس، ومن ثم جاء النهي الإلهي عن الاعتداء جاء مطلقا يشمل كل الجزئيات والحالات، ومن ثم فإنه حرم كل أشكال الأذى. وحماية مسمى "المدنيين" يشمل في التشريع الإسلامي كل مهادن ومن ليس له رأي في القتال، من الشيوخ والأطفال والرجال والنساء والتجار والصناع والفلاحين والأجراء وأفراد البعثات الطبية والدينية والقضاة والمقعدين وذوي العاهات والأسرى والموظفين، كما ورد في الفصل الثاني من البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقية جنيف. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوزع الأسرى على أسر المسلمين للإقامة معهم في بيوتهم، فكانوا بهذا الوضع أقرب للضيوف وما يستدعيه المقام من كرم الوفادة وحسن الضيافة، التي تصل إلى حد الإيثار. وقد شدد الفقه الإسلامي على احترام الشخصية الإنسانية عند التخوف أو التحقق من هلاكها، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الأطفال والنساء والتمثيل بجثث القتلى، وأوصى بحسن معاملة الأسرى والإحسان إليهم من غير تمييز بين أهل القبلة وغيرهم، إذ أجمع فقهاء المسلمين على احترام الحقوق المدنية، وبحث بعضهم مسألة الأمومة في حالة الأسر، وذكر صاحب "المغني" أنه لا يفرق في السبايا بين الأم وولدها الصغير حتى إن رضيت الأم بذلك، ولفظة "حتى" تفيد الجبر لا الاختيار. وقد استطاعت الشريعة الإسلامية ، وفي زمن اتسم بالفوضى والقهر والاستعباد، إرساء قواعد نظام سام ومبتكر يقوم على مبادئ الأخلاق والفضيلة والإنسانية. فقد عالجت السلوك وقت الحرب من حيث معاملة الجرحى والقتلى والأسرى والمدنيين والمنشآت المدنية والدينية. فالدين الإسلامي الحنيف لا يقتصر على تأدية العبادات والعقائد الدينية فحسب، بل هو نظام أخلاقي واجتماعي وقانوني. ويعتبر الإمام عبد الرحمن الأوزاعي والإمام محمد بن الحسن الشيباني رائدين في وضع أسس القانون الدولي، ليس عند العرب والمسلمين فحسب، بل في العالم أجمع ففي مجال أحكام الحرب والسلم، كان الأوزاعي ذا فتاوى موضوعية ودقيقة لنزعته الإنسانية، التي تعتبر البشر جميعاً عائلة واحدة، تعيش أو ينبغي أن تعيش في ظل العدالة والمساواة. فقد حرم التعرض للفلاحين والرعاة والرهبان والعجزة وأصحاب الصوامع في وقت الحرب، إلا إذا اشتركوا فعلا في القتال ، كما حرم التعرض للصغار والنساء حتى ولو تمترسوا بهم الأعداء، بل إنه منع التعرض لأي موقع قد يكون فيه بعض هؤلاء. كما قضى بعدم جواز تخريب شيء من أموال العدو وحيواناته وأشجاره، وكان يستند بذلك إلى تعليمات خلفاء المسلمين إلى قادة الجيوش الإسلامية، وبخاصة بيان خليفة المسلمين أبو بكر الصديق الذي وجهه إلى يزيد بن معاوية، عندما كان في طريقه إلى بلاد الشام، وأوصاه فيه بعدم قتل الأفراد المدنيين العزل غير المحاربين، ولا سيما الصغار والنساء والشيوخ، وبعدم قطع الأشجار المثمرة أو حرقها، ولا يخربوا موضعا عامرا، وأن لا يعقروا شاة أو بعيرا إلا لمأكله، ولا يحرقوا نخلة. وقد خلف الفقيه محمد بن الشيباني كتباً كثيرة في الفقه والأصول ومسلك الدولة الإسلامية في حالة الحرب والسلم والتجارة، وغيرها من المواضيع التي تعتبر من صلب القانون الدولي. وللتدليل على أهمية وفضل وتأثير الفقهاء المسلمين والشريعة الإسلامية في مجال القانون الدولي، فقد أسس بعض الفقهاء والمهتمين جمعية الشيباني للقانون في ألمانيا عام 1955. كما احتفلت جامعة باريس عام 1970 بذكرى مرور ألف ومائتي سنة على وفاته. وقد تأثر كبار الفقهاء الدوليين في الغرب بما وصل إليهم من أفكار ونظريات واتجاهات عربية وإسلامية في القانون. ولو نظرنا لهذه المبادئ والقواعد الإسلامية، وقمنا بمقارنتها على سبيل المثال مع ما ورد في الديانة اليهودية، لوجدنا أن الشريعة اليهودية تآمر رجالها بإبادة الخصوم، كما ورد في " الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج ". وقد استعمل اليهود الخديعة مع سكان المدينة المحاصرة ودعوتهم للصلح، فإن استجابوا أو استسلموا تم استعبادهم. وإن وقعت مدينة في أيدي اليهود، فعليهم أن يضربوا جميع ذكورها بحد السيف، وان لا يبقوا من سكانها أحدا، كما ورد في " الإصحاح العشرين من سفر التثنية " وهذا ما يؤكده ما حدث لسكان العديد من القرى الفلسطينية من مذابح ومجازر وتنكيل، وبخاصة مجازر دير ياسين، وكفر قاسم، وقبية، وخان يونس، وغيرها العشرات من المذابح التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني، كان أبشعها نفي وطرد واقتلاع أكثر من مائتي ألف فلسطيني من ديارهم ووطنهم عام 1948.