التطبيقات المعاصرة للديمقراطية
هناك كلمه لا بد منها حول الديمقراطية وتطبيقاتها في عصرنا الحالي والذي يتميز بتداخل الشأن الاقتصادي بالشأن السياسي وما صاحبه من تكوين الشركات المتعددة الجنسيات والتي تتجاوز رءوس أموالها ميزان المصروفات والمدفوعات لدول ذات سيادة. وتطالعنا الدراسات والأبحاث كل فترة عن أخبار الفضائح المالية الحزبية والسياسية المنتشرة في الديمقراطيات الغربية مما يدفع إلى التساؤل عن أسبابها وعلاقة ذلك بتغييب مفعول القيم الأخلاقية على العملية الديمقراطية. في العقد الاجتماعي لروسو -الذي يكثر الاستشهاد به- نجد أن التمثيل الشعبي المباشر في الحكم للتعبير عن إرادة الشعب كان مصحوبا بدعوة تأسيسية لما عرف بالتربية الفردية التي وضع لها صيغة شاملة في كتاباته، ولكن كل ذلك أسقط تماما بعد أن وصل التطور الفكري في الغرب إلى الاحتضان الكامل لنهج العلمانية المادية وبصوره شرسة. نعلم جميعا أن الانتخابات هي الوسيلة الإجرائية الأهم في العملية الديمقراطية للتعبير عن إرادة الناس ولا يستطيع فرد بذاته وغير منتظم في حزب تحمل النفقات الباهظة للدعاية الانتخابية خاصة بعد انتشار أجهزه الإعلام وتأثيرها الرهيب على أدمغه الناس العاديين الذين لا يعرفون أسسا موضوعية تقوم عليها عملية المفاضلة في الانتخاب. الأحزاب نفسها لا تستطيع احتمال هذه النفقات أيضا من موازنتها المحدودة والاشتراكات والتبرعات فكل ذلك لا يكاد يكفي مرشحا واحدا. وهنا لا يوجد مصدر للتبرعات أسخى من الشركات ذات المصالح المادية المتصاعدة والقدرات المالية الضخمة. وتتحدد أسس اللعبة السياسية القائمة على تلاقي مصالح حزبية من داخل أجهزة السلطة مع المصالح المادية لهذه الشركات التي تربط استخدام المال للتأثير على القرار الذي يصدر عن السلطة التي تأتي بالانتخاب الحر!! أشكال الفساد المالي ومخاطره على العملية الديمقراطية عبر إشكاليات تمويل الأحزاب وانتشار هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة أصبح مقلقا إلى درجة كبيرة وما تتحدث عنه وسائل الإعلام أقل كثيرا من واقع الحال القائم لارتباطه بمصالح ومستويات سياسية عليا. نفس الأمر في المستويات الأدنى وصولا إلى البلديات والمجالس المحلية في القرى.. لقد تحولت الأحزاب السياسية في الغرب معقل التطبيق الأمثل للديمقراطية من تمثيل الإرادة الشعبية إلى تمثيل إرادة الشركات الضخمة وضاعفت العولمة من حجم الظاهرة وأصبحت الشركات الكبرى أقدر على ممارسة الضغوط على الحكومات والأحزاب وحتى على الناس العاديين مع (التهديد العلني بنقل أماكن الإنتاج من الوطن الأم إلى مواطن أخرى تتوافر فيها معطيات ضرائبية أفضل!!). ظاهرة الفساد المالي وكيف تنخر في الحياة الديمقراطية -إلى درجة أشبه بأن تكون حكم الشركات والقوى الاقتصادية للشعب وليس حكم الشعب لنفسه- في الواقع الغربي أصبحت من أخطر سوءات الديمقراطية وذلك بتغليب المصلحة المادية عبر التأثير الهائل للمال وقدرة مالكه على استغلاله لتحقيق ما يريد على حساب المجتمع، وعلى الجانب الآخر يضعف تأثير القوانين والتشريعات، بل إن قوة المال ساهمت بدرجة كبيرة في استصدار التشريعات والقوانين وتعديلها بما يتلاءم مع مصالح هذه الشركات الكبرى. وهو ما يحدث بشكل عادي وطبيعي عن طريق الأحزاب السياسية والتبرعات المالية السخية التي تنهال عليها.. أي وسيلة أو آلية معرضة بحكم الطبيعة البشرية للاستخدام السيئ والاستخدام الجيد، مشكلة الديمقراطية لا تكمن في ذلك بل في غياب ضوابط تنفيذها وتطبيقها، ونحن نميز جيدا بين التعاطي الإيجابي مع دعوات الديمقراطية ورفض منظومة القيم الغربية التي باتت محكومة بالفلسفات والمصالح المادية بدرجة كبيرة وأضحت مصدر خطر كبير وتهديد دائم للديمقراطية نفسها. تطبيق الإجراءات الديمقراطية من انتخابات وتعددية وفصل السلطات واستقلال القضاء وسيادة القانون لا قيمه له في حقيقة الأمر ما لم يكن له سقف من مكارم القيم والأخلاق نابع بالدرجة الأولى من الضمير الذاتي للإنسان، وهي الصفة الأعلى والأسمى التي تنتج من مخالطة الإيمان بالله للنفس الإنسانية وما يتبعه ذلك من اليقظة الضميرية الدائمة والتي نعرفها في الإسلام بـ(التقوى).