البيئة بين القانون و الإسلام
الدكتور عادل عامر
نتيجة للتقدم العلمي الهائل في العصر الحديث، ونتيجة لرغبة الغرب في تطوير أسلحته لتصبح لديها قدرة أكثر على القتل والفتك الذي وصل إلى حد اختراع واستخدام القنبلة النووية لتقتل مئات الآلاف في اليابان، والتي تم تطويرها فيما بعد لتقتل الملايين في ضربة واحدة، نتيجة لذلك كله أصبحت الحروب وما يستخدم فيها من أسلحة سببًا مباشرًا في تدمير البيئة وتلويثها. ولعلنا نتذكر جميعًا ما حدث في الكويت بعد تحريرها من الغزو العراقي حيث تم تلويث البيئة على نطاق واسع نتيجة الأدخنة الكثيفة التي استمرت لشهور والناتجة عن إحراق آبار البترول، ثم تدمير البيئة البحرية عن طريق البترول المتسرب في الخليج العربي. ونحن نتذكر أيضًا ما حدث في العراق من ارتفاع رهيب في حالات الوفاة وتشوه الأجنة نتيجة استخدام اليورانيوم المنضب من قبل القوات الأمريكية ضد الجيش العراقي، وكذلك التزايد الكبير في الإصابة بالأورام السرطانية. لهذا كله جاءت الشريعة الإسلامية لتحافظ على البيئة حتى في حال الحرب، فتمنع إهلاك الحرث، وتبتعد عن المدنيين، ولا يقاتل إلاّ من حمل السلاح معتديا، ولا يقطع فيها زرع، ولا تباد فيها مقدرات الشعوب، وجاءت القوانين الدولية الحديثة لتنص على ذلك، فتحظر الإبادة وتحفظ للشعوب مقدراتها، وللبيئة حمايتها، وما حدث في العراق جرائم حرب لا تقرها شريعة، ويجرمها القانون الدولي، ويعاقب عليها. الحرب الإسلامية حرب حماية ووقاية، وحرب فضيلة وتعمير، فالشريعة الغراء لم تتخذ من الحرب وسيلة للقهر والإعنات والإبادة، وإنما أباحتها - عند الضرورة - علاجاً لمرض لم يُجْدِ معه توجيه ونصح وإرشاد، ولم تنفع معه محاولات المودة والسلام فكان لا مفر من مواجهة الباطل بقوة الحق، ليدمغ الحق الباطل، وتظل كلمة الله هي العليا. ومادامت الحرب في الإسلام حرب حماية للإنسان وغيره من الكائنات التي سخرت له فإن البيئة في هذه الحرب يحرم أن تتعرض لكل ما يلوثها. الشريعة تعمل على تضييق دائرة المعارك الحربية، وقصرها على الأهداف العسكرية بشكل يحول دون أن تتعرض البيئة بعناصرها المختلفة، وكذلك البيئة المشيدة وبخاصة ما يتعلق منها بوسائل الحياة كالمزارع والحيوانات والمياه والمصانع التي تنتج الغذاء والكساء والدواء وما إلى ذلك - لأسباب التخريب أو التلوث والإفساد، فهي بمنأى عن أن توجه إليها أسلحة تحدث بها ضرراً أو دماراً. وإذا اقتضت الضرورة الدفاعية أن يلحق بالبيئة بعض الأضرار فإن ذلك يكون محدوداً ومقيداً بالضرورة فلا يترتب عليه غالباً إفساد عام أو تدمير شامل. تؤكد الشريعة أيضًا على عدم اللجوء إلى القتل إلا إذا فرضت الضرورة ذلك، والنهي عن الإسراف في إزهاق الأرواح، ومراعاة حرمة الميت فلا مثلة ولو بالحيوان، والأمر بسرعة دفن القتلى وعدم ترك الجثث في العراء دون مواراة لها في الثرى نتيجة لكل هذا تحمي الشريعة البيئة من بعض مصادر التلوث، لأن تقليل القتلى وعدم المثلة أو التشوية ودفن من يقتل دون إبطاء يمنع من أن تصبح الجثث إذا لم تدفن مرتعاً للجراثيم، حيث تصاب بالتعفن، وتنبعث منها الروائح الكريهة التي تلوث الهواء وتفسد التربة. وانطلاقًا من تعليمات وأوامر الشريعة جاءت وصية أبو بكر رضي الله عنه لجيش أسامة بن زيد الذي هو أول بعثة حربية في عهده وهو أسامة بن زيد: "لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له". وذهب الإمام الأوزاعي مستدلاً بما ورد في وصية أبي بكر إلى أنه لا يحل للمسلمين أن يفعلوا شيئاً مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب أي في بلاد الأعداء، لأن ذلك فساد، والله لا يحب الفساد، واستدل أيضاً بقول الله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) البقرة. وقد أدركت البشرية أخيراً أن الحرب تمثل خطراً على البيئة، وأن على المحاربين ألا يتعرضوا بأذى للمدنيين وكل وسائل الحياة، وأن يتحاشوا في حربهم التخريب والتدمير، فقد نصت اتفاقية جنيف المؤرخة في 21 أغسطس سنة 1949م في بعض موادها على حماية الأشخاص المدنيين والجرحى والمرضى من المحاربين وغيرهم، وكذلك الأطفال والنساء والمسنين، والمرافق الصحية كالمستشفيات ونحوها. وجاء في المادة (54) من ملحق هذه الاتفاقية بشأن حماية البيئة بأنه يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، وكذلك تحظر مهاجمة أو تدمير أو تعطيل الأعيان المهمة مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وأشغال الري. وتشير المادة (55) إلى أنه يجب أن يراعى أثناء القتال حماية البيئة الطبيعية من الأضرار البالغة وواسعة الانتشار وطويلة الأمد، وقد حظر بموجب هذه المادة استخدام أساليب أو وسائل القتال التي يقصد بها أو يتوقع منها أن تسبب أضراراً بالبيئة، ومن ثم تضر بصحة أو بقاء السكان المدنيين، كما حظر أيضاً القيام بهجمات الردع التي قد تشن ضد البيئة. ويحظر كذلك الهجوم على الأشغال الهندسية أو المنشآت التي تحتوي على قوة خطرة كالسدود والجسور والمحطات النووية لتوليد الكهرباء. هذا طرف مما دعت إليه الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بخصوص حماية البيئة في وقت الحرب، وهو ينبئ عن إدراك بما آلت إليه الحروب الحديثة بأسلحتها التدميرية من خطر على البيئة وخطر على السكان المدنيين. ولكن مثل هذه الاتفاقيات على جدواها من الناحية النظرية لا تلقي الاحترام أو الالتزام من الناحية العملية، ومازالت الأصوات تحذر من المخالفات التي ترتكبها الجيوش في صراعها العسكري، لأنه لا يوجد وازع نفسي يفرض الالتزام بمثل هذه الاتفاقيات، ومازالت الأطماع الإقليمية تسوق المحاربين إلى ميادين القتال غير عابئين بقيم إنسانية أو معاهدات دولية. وهكذا، فإن الشريعة السمحة بتعاليمها الخالدة سبقت القوانين الوضعية في حماية البيئة وقت الحرب، وجعلت هذه الحماية جزءاً من عقيدة المسلم، وفريضة مكتوبة