وإذا كان الفكر السياسي الإسلامي قد عرف غزارة في التأليف، فإنه عرف أيضاً تعدّد المدارس وتنوّع الاتجاهات والاجتهادات، خاصة فيما يتصل بموضوع الخلافة واختيار رئيس الدولة، وما يتفرع عن هذا الموضوع من قضايا كَثُر فيها الكلام وتشعَّب الجدل. ولكننا ننظر إلى هذه الظاهرة التي طبعت التاريخ الإسلامي، من زاوية تختلف عن تلك التي ينظر منها إلى هذه القضية كثيرٌ من الباحثين، سواء من العرب أو من المستشرقين، فنرى أن الاختلاف في الرأي في مجال الفكر السياسي، الذي أدَّى إلى تعدّد المذاهب السياسية في إطار الفكر الإسلامي، هو مظهرُ صحةٍ وعافيةٍ في الكيان الإسلامي، لأنه مسلك يعبّر عن حيوية العقل المسلم، وعن حركية المجتمع الإسلامي، بأوضح صورة، وهو الأمر الذي ينفي عن المجتمع المسلم صفةَ الجمود والقعود عن التطوّر العقلي. ولعلّ من باب الإفاضة المطلوبة والمستحبة في تبيان مبادئ الحكم وقواعد السياسة التي قامت عليها الدولة الإسلامية الأولى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن نستشهد في هذا المقام، بطائفة من أقوال علماء الاستشراق، ومنهم جماعة منصفة من العلماء الألمان، حول هذا الموضوع. يقول الدكتور (فتزجرالد Dr. V. Fitzgerald)(4) : > ليس الإسلام (ديناً) فحسب (Religion)، ولكنه (نظام سياسي أيضاً) (Political system). وعلى الرغم من أنه قد ظهر في أواخر القرن العشرين الميلادي بعض أفراد من المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم (عصريون) يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين ــ فإن صرح التفكير الإسلامي كلِّه قد بُنِيَ على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يُفصل أحدهما عن الآخر<. وقد تراجع أكثرهم عن آرائه فيما بعد. ويقول الأستاذ (نللينو C.A. Nallino)(5) : > لقد أسس (محمد) في وقت واحد : ديناً (Relgion) ودولة (State)، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته <. ويقول الدكتور (شاخت Dr. Shacht)(6) : > على أن الإسلام يعني أكثر من دين : إنه يمثّل أيضاً نظريات قانونية وسياسية ؛ وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً <.ويقول الأستاذ (ستروثمان R.Strothmann)(7) : > الإسلام ظاهرة دينية : إذ أن مؤسسه كان نبياً، وكان سياسياً حكيماً، أو(رجل دولة) <.ويقول الأستاذ (ماكدو نالد D.B. Macdonald)(8) : > هنا ــ أي في المدينة ــ تكوَّنت الدولة الإسلامية الأولى، ووضعت المبادئ الأساسية للقانون الإسلامي <. ويقول السير (توماس أرنولد Sir, T, Arnold)(9) : كان النبي، في الوقت نفسه، رئيساً للدين ورئيساً للدولة <. ويقول الأستاذ (الياس جب E. Gibb)(10) : > عندئذ صار واضحاً أن الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعيَّن في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به <.(11). وهذه شهادات من طائفة من كبار علماء الغرب، تؤكد جميعُها، على أن الإسلام دين ودولة. ولا يمكن أن تكون دولة بلا نظرية سياسية تطبق في واقع الحال، لها قواعدها الدستورية، ولها أيضاً تربيتُها السياسية التي ينشأ عليها المجتمع.