الحياة كفاح.. قد يعيش الإنسان فيها بظفره ونابه، حتى يدفع صولة الباغين عن نفسه واعتداء الظالمين عن عرينه، ولله در القائل:
تأملت هذه الحياة فلم أجد سوى ذل مظلوم وطغيان ظالم
وذي قوة قد راح يسطو بمخلب وناب على شعب وديع مسالم
حياة الغرب استعارت شريعة فلا يلتقي فيها الضعيف براحم
ومن ضمَّ في جنبيه قلب نعامة فلا ينتظر إلا وثوب الضراغم
ولا شك أن اكتساب القوة لها وسائل وطرق تُبعث فيها الدماء، وتوقَد فيها الحماس، وأفضل هذه الوسائل الكلمة الدافعة، والروح المعنوية الدافقة التي تدفع العزائم وتقوِّي النشاط الحيوي للمدافع والمكافح عن حياضه، خصوصًا إذا اتصل ذلك بمجد آباء له كانوا كرامًا وأبطالاً، شهد العالم بفضلهم، وأشادوا بأمجادهم، وتغنَّوا بأفعالهم وانتصاراتهم:
ملكنا هـذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا
وسطَّرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمان ولا نسينا
حملناهـا سيوفًا لامعاتٍ غداة الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يومًا رأيت الهول والفتح المبينا
وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أباة قادرينا
وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا
تفيض قلوبنا بالهدي بأسًا فما نُغضي عن الظلم الجفونا
وما فتئ الزمان يدور حتـ ى مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يُرى في الركب قومي بعد ما كانوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر: أين المسلمون؟
ترى هل يرجع الماضي؟ فإني أذوب لذلك الماضي حنينا
نعم يذوب الإنسان إلى ماضي الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً، وقد وفوا بالعهود، وصدقوا في الوعود، وانتصروا على الباغين بالجنود، وقاتلوا في سبيل الحق، وفازوا على الباطل في الميادين وساحات النزال، وكانوا أقوياء مؤثرين، وأسودًا مقاتلين، لا يضيع لهم حق، ولا يُهضَم لهم جانب، وصدق مَن قال:
ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها
ولقد كنا سبَّاقين إلى ردِّ عدوان المعتدين، وشقِّ هامات الظالمين، الناكثين للعهود والخائنين للوعود.. ﴿أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)﴾ (التوبة)، وعدوُّنا إذا ما وجد فينا ضعفًا بغى علينا وتعلَّل وتذرَّع بأوهى الأسباب، وعمل على خداعنا نفسيًّا وحربيًّا واجتماعيًّا.
وقد عوَّدتنا "إسرائيل" أنه إذا جُرِحَ جندي على الحدود أقامت الدنيا ولم تقعدها، وكما يقول صاحب كتاب (فكرة أمريكا) ومن جورج واشنطن إلى جورج بوش، يدفعهم الفهم الأمريكي للسيطرة وسفك الدماء وحب التفوق والتسلط، كما يخلق لديهم ذهنية المأزق للاستعداد للقهر، ويبررون كل هذا الاعتداء بمقولات عدة منها الدفاع عن النفس، ودحر الإرهاب، ولديهم فلسفتهم الأمنية الغريبة التي تبرِّر كل أخطائهم، ولهذا ففي تراثهم التبريري فضاء واسع من الاستعارات العمياء لخداع الضحايا، وهذا هو جزءٌ من استثمار الأقوياء للأحداث وتوظيفها لصالحهم، كما يقومون دائمًا بمراجعة وتصفية أعداد من الملفات القديمة العالقة أمنيًّا وعسكريًّا وسياسيًّا.
ويغطون على ذلك بخداع الغير بأحاديث عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، والعالم اليوم لا يحترم إلا القوة، ولا يؤمن بمبادئ السلام والعدل والإخاء والإنسانية، وإنما يتحجج بهذه الكلمات ليخدِّر بها المشاعر للبسطاء والسذَّج من المسلمين ومنطق العالم اليوم هو منطق السباع والوحوش من الناب والظفر برهانهم:
سأحمل روحي على راحتي وأهوي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى شيء
وعندما كان الاستعمار الفرنسي يقصف دمشق هزَّ أحمد شوقي الجماهير في حديقة الأزبكية بالقاهرة بقصيدة نكبة دمشق في يناير 1926م، وكانت قصائد شوقي تُنشر في الصفحة الأولى من الصحف، وينادي باعة الصحف بأن في الصحيفة قصيدةً لشوقي، وكنا نحفظ مثل هذه القصيدة كطلبة مدارس، وكانت من النصوص المقررة، وشتَّان بينها وبين ما يقرر من نصوص شعرية في زمن أبنائنا:
سلامٌ من صَبا (بَرَدَى) أَرقُّ ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دِمَشْقُ
وبي مما رَمَتْكِ بهِ الليالي جراحاتٌ لها في القلب عُمْقُ
صلاَحُ الدين; تاجُك لم يُجَمَّل ولم يُوسَم بأَزين منه فَرْقُ
دَمُ الثوارِ تعرفُه فرنسا وتعلم أَنه نورٌ وحَقُّ
بلادٌ ماتَ فِتْيَتُها لِتحْيا وزالوا دونَ قومِهمو ليبقُوا
وللأَوطانِ في دَمِ كلِّ حُرٍّ يَدٌ سلفتْ وديْنٌ مُستحق
ولا يبني الممالكَ كالضحايا ولا يُدني الحقوقَ ولا يحِق
وللحريةِ الحمراءِ بابٌ بكلِّ يَدٍ مُضَرجَةٍ يُدَقُّ
وبعد: فهل آن الأوان ليمتشق الحسام ويبرز الأبطال من العرين حتى يعلم القاصي والداني أننا أصحاب مجد أثيل، يتصل أولنا بآخرنا، وقاصينا بدانينا، وأننا لا نرضى بالريادة بديلاً، وأن كبوتنا مجبورة، وزلتنا مستورة، وأن مع العسر يسرًا.. وإن غدًا لناظره قريب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.