ثانيا ـ النظرية و العلاقات الدولية.
اعتبار العلاقات الدولية بأنها علم اجتماعي ليس اختراعا أو إنتاجا من غير برهان. ليس فقط لأن العلاقات الدولية، على صورة علم السياسة، علم الاجتماع، العلوم الاقتصادية، تنتمي من جانب إلى عالم خطابات وأحاديث العلماء، و من جانب آخر، تنتمي إلى ممارسات وتطبيقات سياسية، والتي بشكل دائم تأتي في نفس الوقت لإغناء وإعاقة التحليل العلمي، كما الواقع الحالي و المعاصر، من سقوط جدار برلين إلى 11 سبتمبر 2001، هذا الواقع الذي يقود بدوره للاستفهام عن جميع النظريات الموجودة. وهنا يكون السؤال: إذا كل علم اجتماعي له موضوع للدراسة محدد و خطوة علمية معروفة، إلا أن العلاقات الدولية حتى الآن لم تستطع الحصول بالإجماع على هاتين الخطوتين ؟
فبالنسبة لتحديد موضوع الدراسة في العلاقات الدولية، فمصطلح "الدولية" international يطرح على هذه العلاقات وحده فقط مشاكل كبيرة وقاسية. " فالدولية أو الدولي" هنا، هي صفة مشتقة من صفة
" national" : فكيف لا يتم إسقاط أو استنتاج ما يربط من علاقات بين الأمم، والدول، على العلاقات القائمة " في داخل" أمة أو دولة معينة ؟
هذا الموقف و السؤال يتبناه كلا من " Yale ferguson" و " Richard Mansbach" من جامعة "ثاوث كارولينا"، اللذان لا يترددان وبعد معاينة لطبيعة الاشتقاق "الدولية" international للاستنتاج بعدم إمكانية وجود علم أو حقل للعلاقات الدولية مستقل أو كامل الاستقلالية. ففي كتابهما ( The Elusive Quest. Theory and International relations) ـ البحث "التحقيق" المحير، و نظرية العلاقات الدولية ـ يقول كلاهما :" المفهوم نفسه international لا يمكن أن يفهم إلا بمقارنته مع كل ما هو غير national أو interne. نفس الشيء بالنسبة لمصطلح transnational أو مصطلح inter state أو بالفرنسية interétatique ، ولا ننسى مصطلح آخر هو السياسة "الخارجية". إذا هذا حقل أو مجال ،والذي مفاهيمه لا يمكن أن تعرف بشكل دقيق، لا يمكن الادعاء بأنه علم خاص و مستقل".
طبعا هذا الموقف منهما يستحق المناقشة و المراجعة. فإذا أقمنا علاقة بين المرادفات أو المفردات أي بين الفعالية النظرية و المفهوم، بمعنى الخطوة النظرية تصبح كالعلوم الطبيعية، فإن " Yale ferguson" و " Richard Mansbach" ينسيان أنه يوجد على الأقل مفهومين هما نظرية في العلوم الاجتماعية و بالتالي في العلاقات الدولية. وعملية إيضاح لمفهوم النظرية يفرض إذا، ويلحق بتجربة لتحديد إيجابي لحقل أو مجال تغطيه العلاقات الدولية، هذه التوضيح المفهومي conceptuelle سيسمح بتبيين أن نظرية العلاقات الدولية ليس فقط موجودة، بل لها قوة في هذا الوجود.
في فرنسا مثلا، صفة international دخلت في عام 1801، ولكن تم التطرق لها من خلال الفيلسوف النفعي البريطاني " جيرمي بونتام" ( من " المدرسة النفعية" utilitarisme)، وذلك في مؤلفه " Introduction to the principles of Morals and Legislation" ـ مدخل إلى مبادئ الأخلاق و التشريع ـ و المنشور في عام 1789." بونتام" كتب أنه ووفق النوعية السياسية التي يحملها الأشخاص حيث القانون هو من يضبط عملية قيادتهم، لا بد من التمييز بين القانون الوطني و القانون الدولي. لقد كان أول من اعترف بهذا التمييز.
ثالثا ـ النظام السياسي الدولي.
ملاحظة : ( فيما يتعلق بتعريف هذا النظام و إطاره النظري يمكن العودة إلى الكتاب الذي بحوزتكم و الذي يحمل عنوان " النظام السياسي الدولي، دراسة في الأصول النظرية والخصائص المعاصر"، للدكتور عبد القادر محمد فهمي).
بما أن النظام السياسي الدولي هو إنتاج لدخول العديد من المؤسسات في علاقات متشابكة و علاقات من المصالح، فإنه علينا وقبل معرفة طبيعة هذا المنتج، علينا العودة إلى الآلات و اليد العاملة التي تصنعه، فإذا عرفنا ماهيتها و استطعنا تحليلها، فسيهل علينا تحليل هذا المنتج ومعرفته بتفاصيله ودقائقه.
أولى هذه الآلات المنتجة لسلعة نسميها النظام الدولي هي "الدولة"، فالدولة هي أساس كل العمليات التي تجري على الساحة العالمية، هذه العمليات التي تنهي لتشكيل النظام الدولي بسلبياته وإيجابياته.
1ـ فما هي الدولة كمؤسسة دولية ؟
عندما نفكر بالدولة كمؤسسة دولية، هذا يعني أنها تشكل نظرة أخرى غير التي نعرفها عنها أي أنها تقوم بدور على الصعيد الداخلي. ولكن في الحالتين تربط الدولة أو تجمع بين صفات قانونية و أخرى ذات جوهر مادي.
ـ من الزاوية الداخلية: الدولة تعرّف بشكل أساسي بالنسبة لوضعها نفسه، أي كسلطة مطلقة ضمن نطاق من التنظيم العام لمجتمع معين متمركز فوق إقليم محدد. هنا بالمعنى القانوني أو "الصفات القانونية" هي بناء إرادي أو مصطنع، يرتكز على مفهوم السيادة. إنها تضم بنية عضوية، ارتباط مع إقليم و ناس خاضعين. الكل هذا يعرّف ويوحد من خلال نظام قانوني خاص بهذه الكل. و بالمعنى المادي، هي جسم سياسي مجمع تحت سلطة مشتركة ضمن نطاق إقليمي محدد ومع سكان محددين. هوية هذا الجسم السياسي تعرّف من خلال نفسه ومن أجله نفسه، وذلك حول مبدأ من الشرعية و الذي يقود المحتوى و أشكال ونماذج ممارسة السيادة. فالدولة هي المؤسسة السياسية الوحيدة المنظمة انطلاقا من هذا المبدأ من الشرعية، وهذا ما يمنحها طابعا وحيدا متفردا. فهي الوحيدة التي تستطيع الحصول على أفراد يموتون من أجلها و باسمها، من أجل الدفاع عن وجودها و مصالحها. إنها تمتلك حقا في الموت والحياة بالنسبة لمواطنيها. إنها في نفس الوقت من غير منافس ولا يساويها أحد ضمن من نسميه دائرة سيادتها.
ـ من الزاوية الدولية : الدولة لديها المنافس ولديها ما يعادلها أو يساويها. فعليها الوجود المشترك مع دول أخرى والتي بدورها تمثل نفس الصفات كما هي تماما. المجتمع الدولي ينتج بشكل جليّ من هذه التعددية. دولة ومجتمع دولي هما كائنان متعايشان متشاركان، بحيث أن الدولة هي القاعدة في التمييز بين الداخلي و الدولي. فالمجتمع و العلاقات الدولية لا يمكنهما الوجود ولا يمكن التفكير بهما من غير الدولة. هذه العلاقات تخضع لمبدأ قانوني من المساواة بين الدول، وهذا ما يعطي السيادة معنى آخر أو بعدا آخرا : فالسيادة هنا ليست سلطة مطلقة، كما هو حال الدولة من الزاوية الداخلية.
إن الدولة كمؤسسة دولية تشكل طابعا أصليا غير مسبوق. إنها أولى المؤسسات الدولية، بالمعنى التاريخي والمعنى التراتبي. فهي الأكثر غنى و الأكثر تعقيدا. لا يوجد مؤسسة أخرى تمتلك كما الدولة نفس الكمالية في الجدارة والأهلية، ولا يوجد مثل الدولة من يشكل نطاقا عاما لتنظيم الحياة الاجتماعية و للقيام بالوظائف التي تتحمل الدولة مسؤوليتها. هذه الوظائف تتعلق باستقرار الدولة الخاص، هذا الاستقرار بدوره يشترط وجود المجتمع الدولي أو النظام الدولي بكليته، و من الاستقرار أيضا يأتي تنظيم وضبط الاتصالات والتبادلات والتي هي السكة الحديدة التي تسر عليها العلاقات الدولية.
إن نموذج الدولة حقق نتائج و نجاحات تاريخية كبيرة وهي لا تتوقف حتى اليوم. الدولة استطاعت التعايش وتبني مختلف الحالات الداخلية والدولية الأكثر تغيرا و اختلافا.لقد استطاعت و عرفت خلال قرون طويلة تطوير نفسها و إضافة أبعاد أحرى لها مثل الأبعاد الثقافية،السياسية و الاقتصادية والاجتماعية أيضا. وفي نفس الوقت حافظت على صفاتها الأصلية. بالمقابل، يمكننا أن نلاحظ أيضا استمرارية الدور العالمي للدولة، و الذي يتطابق مع صفات و وظائف مشتركة. فصفة الاستمرارية و الديمومة هي تعريفات ممكنة للمؤسسة، أو ربما التعريف الأفضل من بين جميع التعريفات، لأن المؤسسة هي خلق إنساني وجد من أجل أن يستمر. ولكن أيضا من جهة أخرى، وجود الدول يمكن أن يكون متحركا. فالتقلبات التاريخية التي يمر بها المجتمع الدولي تحدث تشكيل أو تكوين دول أخرى، أو التحول إلى دول أخرى،وأحيانا اختفاء دول بكاملها. إن استمرارية الدور العالمي للدولة يسير بشكل متناظر مع حياة أو موت الدول.