القرآن؛ فليقرأ وليتأمل. ولقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على الاستجابة المباشرة لدفع القرآن، فانطلقت أمة الإسلام تنفق كل طاقة لديها في كل ما يعود على البشرية كلها بالخير والنفع الدنيوي والأخروي، ولو خُلي بين الإسلام وبين النفس الإنسانية والمجتمعات الإنسانية لأعاد تركيبها تركيبًا جديدًا، ولتحركت البشرية ـ التي تأكل الآن كبدها ـ إلى كل ما فيه صلاحها، ولانتظمت في هذه الحركة "الربانية الدفع" كل الفئات، حتى لا يبقى إلا الشواذ الذين لن يكونوا في جسد البشرية إلا كشعرة سوداء في جلد ثور أبيض. وبعد ذلك نجد القرآن يحث الأغنياء على الإنفاق والإيثار؛ بأسلوب يهز القلوب ويزلزلها لتنفض الشح وتتخلى عن الإمساك، فكان ما وصفه القرآن الكريم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 8-9]. ولما قامت دولة الإسلام أوجب الله تعالى الزكاة إيجابًا وفرضها فرضًا، فكانت تُؤخذ من الغني وتُرد على الفقير، وكان الغني يدفعها طيبة بها نفسه؛ لأنه تعلَّم أنها رزق الفقير، ساقه الله إليه من خلاله، فهي حقه الخالص، الذي إن منعه إياه يكون قد ظلمه وبخسه، وأُنشئ بيت المال، الذي يقوم بضمان حقوق الفقراء والمساكين وسائر المعوزين ويوصلها إليهم، فيتلقونها حقًّا لا منَّة يمتن بها أحد من الناس عليهم. ومع تقدم الدولة الإسلامية، وتعدد روافد بيت المال؛ اتسع الإنفاق، وفُرضت الأعطيات والمنح في بيت المال لجميع الطوائف، كل بحسبه، وتحقق على أكمل وجه ـ بحسب معطيات الظروف آنذاك ـ الضمان الاجتماعي لجميع المواطنين. ثم إن الإسلام ـ برغم اعترافه بالملكية الفردية الخاصة، وإعطائه الحرية الكاملة للتملك والاستثمار ـ لم يطلق العنان لهذه الملكية لتشتط وتتأله، وتصير ماردًا جبارًا يهيمن على الحياة، ويزلزل تركيبة المجتمع، ويجعل السياسة أبدًا ساجدة على أعتاب الاقتصاد، ويجعل النشاط البشري بحملته كمغزل في يد حفنة من المرابين، أو كعجلة طيعة في قبضة رجال الأعمال، إن شاءوا أداروها في اتجاه عقارب الساعة وإن شاءوا فللعكس؛ مما ينتج عنه شعور الجمهور بالضياع، وإيجاد مناخ للجريمة والانحلال، وتحريك الطمع في نفوس الأثرياء، والحسد في نفوس الفقراء، والصراع الطبقي من أجل الحياة أحيانًا، ومن أجل السبق أحيانًا أخرى، وهو المناخ الذي نمت فيه حرفة السرقة وترعرعت، حتى أصبح "مارد المافيا" هو الضد، وهو رد الفعل "لمارد الرأسمالية". لم يطلق الإسلام العنان للرأسمالية لتستعبد الناس وتولد الحقد والحسد في نفوسهم. هذه هي الضمانات التي قدمها الإسلام للأفراد، وهذه هي الأوضاع والأجواء النظيفة التي أوجدها، فلماذا إذًا يسرق السارق؟ ولماذا يعتدي على أمن مجتمع يكفله، ويحقق له الضمان الاجتماعي، ويشعر فيه الفرد بذاته وبكيانه، ولا يتحرك في صدره حسد على غني كانزٍ للمال معظِّمٍ للثراء، ولا يجد في محيطه غنيًّا إلا وهو ملتزم بما عليه، مؤدٍّ لواجباته متواضع لخلق الله؟! إن اليد التي تسرق في مجتمع تسود فيه شريعة الإسلام، وتتحقق فيه العدالة الاجتماعية؛ لن تكون إلا يدًا باغية للشر والفساد، عادية على حرمات المجتمع، مستهترة بأمن الناس، حاملةً كمًّا من السموم يكفي لإعطاب جسم المجتمع كله، وإن بترها لن يكون إلا كبتر نتوء مسمم من جسد سوي متين البنيان. والسرقة هنا مثال ضربناه، وقِس على ذلك كل الحدود. ثانيًا: بالرغم من أن الحدود في ظل التطبيق الكامل للنظام الإسلامي تكون محصورة في دائرة ضيقة جدًّا ـ كما بيَّنا في البند السابق ـ فإنها لا تُطبق إلا بشروط مشددة، تجعلها في أغلب الأحوال رادعة وزاجرة باسمها أكثر منها بحقيقتها، كالسوط الذي يعلق في الجدار، إذا رآه المردة انزوى الشر في نفوسهم كما تتروى الحيات في جحورها. فحد الزنا مثلًا، لا يقوم إلا إذا شهد أربعة رجال عدول بأنهم رأوا من الزاني والزانية ما يكون بين الرجل وزوجته "عيانًا ويقينًا"، فإن شهد ثلاثة لم ينفذ الحد على المتهم بالزنا، وإنما يُجلد الثلاثة للقذف، ولا أحسب أن هذا سيتحقق إلا إذا كان الزاني والزانية يمارسان ما يمارسانه بشكل متكرر، وبصورة متبجحة أفزعت المجتمع، وجعلته يتحرك غِيرة ليستأصل الأذى المتبجح، والفساد المستهتر بالعرض والشرف. أما أن يقع الزنا زلة أو فلتة أو استراقًا من خلف ظهر المجتمع؛ فقلَّ أن يترتب عليه حد؛ لاستحالة تحقق شرط الشهود في أغلب الأحوال، ويكون حساب الزاني أو الزانية على الله عز وجل، وهما مطالبان أن يسترا على أنفسهما، وأن يتوبا إلى ربهما. وحد السرقة لا يُقام إلا بشروط، منها: ألا تقوم قرائن بأنه لم يقصد السرقة، وأن يكون المسروق محفوظًا، وأن يبلغ النصاب، وهو ربع دينار؛ أي ما يزيد على جرام ذهبًا، وألا يكون السارق جزءًا من المسروق منه، كأن يكون ابنه، وألا تقوم شبهة الاستحقاق؛ فإن قامت اندفع الحد، وبقي إثم التحايل، وألا يكون السارق قد وقع في ضرورة ألمت به. ثالثًا: بالرغم من كل ما سبق؛ فإن الإسلام قد وضع في طريق تطبيق الحدود حاجزين كبيرين، لا يتخطاهما إلا كل من تمكن الإجرام من نفسه، بحيث لم يترك للمجتمع فرصة ليعفو عنه، ولم تترك له جريمته فرصة للإفلات من العقوبة بأي شبهة تعرض. الحاجز الأول: هو استحباب التعافي في الحدود قبل رفعها إلى القضاء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) [رواه أبو داود، (4378)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (4376)]. فإذا كان المجرم في نظر المجتمع أهلًا للتوبة، قريبًا من الصلاح بما يحمل في نفسه من بقية خير؛ فلاشك أن المجتمع سيسعى لإصلاحه، وإعطائه الفرصة ليتوب قبل أن يرفع أمره إلى القضاء، وقد قال تعالى في شأن أشد المجرمين عتوًّا وهم المحاربون للمجتمع بالإرهاب: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة: 34]. الحاجز الثاني: قاعدة "ادرءوا الحدود بالشبهات"، وهي قاعدة صحيحة وإن كان الحديث الذي روي فيها ضعفه بعض العلماء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم...) [رواه الترمذي، (1489)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، (1424)]، وقال عمر رضي الله عنه: (لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات) [مصنف ابن أبي شيبة، (28493)]، وهذا معناه أن الشك دائمًا يفسر في صالح المتهم، وأن على القاضي ألا يوقع العقوبة إلا إذا كانت التهمة مطابقة للواقع، سالمة من المعارض، خالية من كل شبهة. رابعًا: فإذا ما أُقيم الحد على الجاني؛ لم يكن من حق المجتمع المسلم أن يعيِّره، ولا أن يمتهن كرامته؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد عندما لعن الغامدية: (مهلًا يا خالد، فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له) [رواه مسلم، (4528)]. وتكون هذه العقوبة ـ عند كثير من العلماء ـ مكفرة للذنب، مسقطة للعقوبة الأخروية، لذلك قالوا: إن هذه الحدود جوابر وزواجر، جوابر: