العقوبات الشرعية وحقوق الإنسان
الدكتور عادل عامر
ما كان للبشرية أن تقف من القرآن الكريم ومن الإسلام هذا الموقف، وما كان يصح منها أن تظل هكذا في ريبة وشك؛ ذلك لأن القرآن الكريم كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأن الإسلام منهج الله الذي فيه سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، وفيه أعظم ضمان لحقوق الإنسان في كل زمان ومكان. وما كان ينبغي للناس ـ إذ جاءهم من ربهم الهدى ـ إلا أن يتلقوه مطمئنة به نفوسهم، واثقة به قلوبهم، ثم يطبقوه في واقع حياتهم، ليخرجوا من الضيق والعنت والتيه والضلال، إلى حيث يدركون أمنهم وسلامتهم واستقرارهم وطمأنينة قلوبهم، ثم سعادتهم الأبدية يوم أن يرد الخلق إلى بارئهم. ولكن أعداء الإنسانية أبوا إلا أن يحولوا بينها وبين منهج الله الذي يحقق للناس إنسانيتهم، ويحقق لهم كذلك عبوديتهم لربهم عز وجل؛ لذلك ما فتئوا يثيرون الشبهات تلو الشبهات حول القرآن والسنة وحول الإسلام والمسلمين. وكانت شبهة الحدود إحدى الشبهات التي أُثيرت حول القرآن الكريم وحول الشريعة الإسلامية، قالوا: إن الحدود التي شرعها القرآن كحد الجلد للقاذف والزاني، وحد قطع اليد للسارق، والقصاص من القاتل عمدًا وغير ذلك ـ قالوا إن هذه الحدود منافية لحقوق الإنسان؛ إذ أن فيها امتهان لكرامة الإنسان، وتعذيب وقسوة في العقوبة، وتعطيل للطاقات البشرية، وغير ذلك مما يتنافى مع حقوق الإنسان. وقبل أن أجيب على هذه الشبهة، أحب أن أسائل الذين يروجون الأكاذيب والأباطيل، ويمارسون دور التخذيل عن الإسلام والصد عن سبيل الله، ويقفون بما لفقوه من طعون، وبما افتروه من شبهات، وبما اختلقوه من أضاليل وأباطيل، يقفون للبشرية بكل سبيل؛ لئلا تصل إلى هذا الدين الحق ولا يصل إليها، أسائل هؤلاء: أي إنسان تقصدون؟! أهو الإنسان الذي أُهدرت إنسانيته، ووُطئت كرامته في "أبو غريب" وجوانتانامو؟! أم هو الإنسان الذي يُختطف من أي مكان في العالم، بلا أدنى تهمة إلا مجرد الاشتباه، وبلا أدنى ضمانات أو حقوق، ثم يتم تسفيره إلى حيث لا يعلم أحد عنه شيئًا، ولا يعرف هو عن نفسه شيئًا، وإلى حيث يفقد كرامته وآدميته في سجون سرية، ثم إن عاش بعدها ففي أقفاص للحيوانات البشرية في جوانتانامو؟! عن أي إنسان يتحدثون، وبأي حقوق يتشدقون، ومن أي منطلق ينطلقون؟ أعن الإنسان في الأرض كلها يتحدثون؟ أم عن الإنسان الغربي يدافعون، وله يتحمسون؟ فإن كانت الأولى؛ فليبحثوا عن الإنسان في "أبو غريب" وجوانتانامو، فإن لم يجدوه فلينقبوا عنه في باطن الأرض في السجون السرية، وإن كانت الثانية؛ قلنا لهم: قد صدقتم في دفاعكم عن قومكم، أما الإنسانية فدعوها وشأنها. وعن أي حق من حقوق الإنسان يبحثون ـ إذ ينكرون على القرآن تشريع الحدود ـ أعن حقه في هتك الأعراض، وانتهاب الأموال، وترويع الآمنين، وخلخلة المجتمع، وإشاعة الذعر فيه؟ ما هذه الشفقة الكاذبة على الإجرام والمجرمين؟ وما هذه الرحمة المنتحلة التي تريد أن تتستر على "المافيا"؟! وما هو المنطلق؟ أهو مجرد الصد عن سبيل الله وتشويه الإسلام لئلا يصل إلى الأنام؟ أم هو الحب للجريمة والهيام بالمجرمين؟ أم هما معًا؟ إن الإسلام دين الله، وإن القرآن الكريم كلام الله، وإن الشريعة الإسلامية منهج الله، وإن الحدود حق وعدل وحكمة ومصلحة ورحمة ورأفة، وإن المجتمع البشري لفي مسيس الحاجة إلى أن يستظل بظل الشريعة الغراء بما فيها الحدود؛ ليخرج من ليل الإجرام الذي لف الكرة الأرضية كلها، ولينعم الناس بالأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وقبل ذلك على دينهم. أما أن الحدود تنافي حقوق الإنسان؛ فلا ثم لا، إلا إذا كنا نعني بحقوق الإنسان: حقوق المجرمين في التمادي في الإجرام، وفي ممارسة الجريمة وتطويرها بارتياح وبلا إزعاج، وفي سلب الأموال، ووطء الأعراض، وإزهاق الأنفس، وتمزيق المجتمع البشري. ولكي تتجلى لنا هذه الحقيقة ـ حقيقة أن الحدود في الإسلام لا تنافي حقوق الإنسان، بل تصونها وتحافظ عليها ـ علينا أن نتدبر النقاط التالية: أولًا: الشريعة الإسلامية نظام شامل متكامل، والإسلام كلٌ لا يتجزأ، ومن الخطأ أن نجتزئ منه فرعًا، ثم ننظر فيه بمفرده دون النظر إلى باقي الأفرع وإلى الشجرة كلها، والاجتزاء من الكل الكامل المتماسك الذي لا يقبل التجزئة هو عين الإخلال، وسبب الضلال، وهو المدخل الذي انزلقت منه الخدعة إلى قلوب الجماهير، الذين إن سمعوا عن الحدود؛ تصوروا ـ بسبب الاجتزاء ـ أن نصف الشعب سيذهبون ضحايا إقامة الحدود، وسوف يمتلئ الشارع بالمجلودين والمرجومين ومقطوعي الأيدي. كلا، ليست الصورة هكذا، إن المحدودين في العهد النبوي وفي عهد الخلافة الراشدة لم يجاوزوا أصابع اليد الواحدة، وفي تاريخ الإسلام كانوا من الندرة بمكان، وفي بعض النظم القليلة التي طبقت الحدود في الحياة المعاصرة لم يكونوا كثرة تلفت النظر أو تسترعي الانتباه، ولو طُبق الإسلام ـ كلًّا لا جزءًا ـ فلن يكون عدد المحدودين في العالم إلا نسبة ضئيلة، كنسبة الملح للطعام. لماذا؟ لأن تطبيق الإسلام كنظام حياة متكامل وشامل؛ يضيق نطاق الجريمة، ويقضي على أغلب أسبابها ودواعيها وبواعثها، ويطوي الأرض من تحتها لتنحصر في زاوية الشواذ، الذين إن بقوا على شذوذهم دون تهذيب وتشذيب؛ فسيكونون في جسد الكيان البشري كالأظافر المتفحشة التي تضر ـ أول ما تضر ـ صاحبها. ولنضرب على ذلك مثلًا ـ وبالمثال يتضح المقال ـ بحد السرقة، فقد جاء في القرآن الكريم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، ففي هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى بإقامة الحد على السارق بقطع يده؛ جزاءً ونكالًا ليرتدع عن ارتكاب مثلها، ولينـزجر أمثاله عن ارتكابها، وجاءت السنة لتفصل هذا الإجمال، وتوضح شروط إقامة هذا الحد. لكن الإسلام قبل أن يشرع عقوبة السارق هذه لم يدع للسارق مبررًا مقبولًا للسرقة؛ حتى إذا سرق لم يكن ذلك منه إلا استهتارًا بحرمات الناس، وشرهًا للعدوان والسطو، ومرضًا نفسيًّا واجتماعيًّا ذا خطر بالغ، ولم تكن اليد التي قابلت أيادي المجتمع الإسلامي عليها بالتنكر لفضله، والتهجم على حرمته والترويع لأمنه ـ لم تكن تستحق إلا البتر، مثلما يُبتر العضو الذي غلب عليه العطب، وخيف أن يأتي على الجسد كله بالفساد والشلل. فالإسلام ابتداءً لم يدع طاقة معطلة، ولا يدًا عاطلة، ولا فراغًا يُساء استغلاله بالطاقات المعطلة والأيدي العاطلة، وإنما سخر الطاقة البشرية في عمارة الأرض بمنهج الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي العبادة والشعائر، وفي السعي والضرب في الأرض لطلب الرزق وابتغاء الفضل من الله، ومن تأمل آيات القرآن