حكم التعذيب في الشريعة الإسلامية مقارننا بالقانون
الدكتور عادل عامر
وفقًا لإعلان الأمم المتحدة ضد التعذيب سنة 1975م جاء تعريفه على النحو التالي: «أي عمل يؤدي إلى ألم شديدٍ، أو معاناة جسدية أو نفسية بواسطة أو بتحريض موظف عمومي على شخص؛ بهدف الحصول منه أو من شخص ثالث على معلومات، أو اعتراف، أو معاقبته بسبب أي عمل ارتكبه، أو مشتبه بارتكابه، أو إيذائه هو أو أي شخص ثالث ولا يقصد بالتعذيب الألم والمعاناة الناتجة عن توقيع العقوبات القانونية (2)». ويلاحظ هنا على هذا التعريف أنه قصر التعذيب على هذا الفعل الذي يقع من موظف عام تجاه آحاد الناس، مع أن التعذيب يمكن أن يمارسه أي شخص، ولو لم يكن يحمل صفة الموظف العمومي ضد شخص آخر؛ إما لمرض نفسي عند القائم بالتعذيب، أو من أجل الحصول على مال (كالمخطوف مثلاً). وفي 10 ديسمبر 1984م اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع اتفاقية دولية لمناهضة التعذيب، اعتمدت فيه التعريف السابق مع إضافة التمييز كسبب للتعذيب.
التعذيب في القانون المصري:
والمادة 126 من قانون العقوبات المصري تجعل التعذيب مرتبطًا بالغاية منه، وهي الحصول على الاعترافات، وعاقبت كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم، أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف: بعقوبة الأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث إلى عشر سنوات، وإذا مات المجني عليه (بسبب التعذيب) يُحكم بالعقوبة المقررة للقتل العمد. وجاءت المادة 129 من ذات القانون لتعاقب كل موظف عمومي، أو شخص مكلف بخدمة عمومية استعمل القسوة مع الناس؛ اعتمادًا على وظيفته، بحيث إنه أخل بشرفهم، أو أحدث آلامًا بأبدانهم: بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه، ويلاحظ على هذه المادة أنها تندرج في التعذيب الذي يوقعه موظف عام على أي من آحاد الناس. ونرى أن هذه العقوبات قاصرة عن استئصال شأفة التعذيب؛ لأن استعمال القسوة الذي يقع من كثير من رجال الشرطة على المواطنين يزداد؛ وذلك لتفاهة العقوبة التي تغريهم بتعذيب الناس بالحق أو بالباطل، والواجب تشديد هذه العقوبة من أجل القضاء على هذه الظاهرة التي استشرت في أكثر مجتمعات المسلمين في الآونة الأخيرة وللأسف الشديد. إن العقوبة التي ينزلها المجتمع بالجاني تكون في ذاتها زجرًا له وردعًا لغيره، ولذلك استثنى التعريف السابق للتعذيب والذي أقرته الأمم المتحدة ما ينتج عن العقوبات المقررة من أذًى من أن يندرج تحت مفهوم التعذيب، والذي يراعي عند تقدير العقوبات ما أحدثته الجريمة من آثار:
- الأذى الذي لحق بالمجني عليه.
- الترويع والإفزاع العام للمجتمع.
- مقدار ما فيها من هتك لحمى الفضيلة.
وفي العالم كله تقف عقوبة الإعدام -والتي مازالت سارية في معظم بلاد العالم وعادت إليها بعض البلاد كالولايات المتحدة التي كانت قد ألغتها في السابق– على قمة سلم العقوبات، وهي قمة الإيذاء البدني؛ لأن فيها سلب الروح نفسها. وهناك فرق كبير بين أن يكون العقاب بدنيًّا لما تقرره شريعة الإسلام في معظم الحدود الشرعية، وبين أن يكون الإيذاء البدني سابقًا للعقوبات في مرحلة التحقيقات التي يجب أن تُصان فيها نفس المتهم وجسده. التعذيب وحكمه في الإسلام: التعذيب والمُثْلَة والتنكيل كلها بثور مرضية لا تطفح على سطح المجتمع إلا في عهود القهر والتخلف والخواء الروحي، ومن مفاخرنا التي يجب أن نتيه بها على غيرنا من الأمم أن الإسلام ديننا السمح حرم المُثْلَة، وحفظ على الإنسان حياته فلا تُهْدَر إلا قصاصًا، واعتبر النفس الواحدة رمزًا للبشرية جمعاء { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة: 32]. ويكفيك أن تقارن هذه الحصانة الشديدة للنفس الإنسانية بما كان عليه العالم الجاهلي من إهدار واستهتار بحياة الإنسان، ويكفيك أن تسترجع في ذاكرتك مشهد السادة الرومان وهم يتحلقون حول ساحات المصارعة، وجموع العبيد والمؤمنين من أتباع المسيح تُلْقَى وجبة سائغة للأسود والوحوش الفتاكة، وما عليك إلا أن تقارن بين هذه التقاليد الرومانية وبين تعاليم القرآن، وهي تسبغ الرحمة والتعاطف بين أفراد المجتمع البشري، وتأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وما عليك إلا أن تسترجع حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن المرأة التي دخلت النار في قطة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» [رواه البخاري (2365)، ومسلم (2242)]. وتذكر حديث ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مر عليه حمار قد وُسِمَ في وجهه ..(أي كُوِيَ بالنار) فقال (صلى الله عليه وسلم): لعن الله الذي وسمه، وحديث ابن مسعود: كنا مع رسول الله في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة – نوع من الطيور – معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة تعرش (تحوم وتخفق بجناحيها) فجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها. ورأى (صلى الله عليه وسلم) قرية نمل قد حرقها بعض الناس، فقال لبعض أصحابه: من حرق هذه؟ فقال بعض الصحابة: نحن، فقال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار. فإذا كان هذا دأب رسول الإسلام مع القطة والطير والنمل، فما بالك بحدبه على النفس الإنسانية من أن تتعرض لمُثْلَة أو تنكيل أو هوان؟! اسمع إلى قول الصحابي الجليل أبي علي سويد بن مقرن: لقد رأيتني سابع سبعة ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا فأمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نعتقها، واسمع إلى أبي مسعود البدري وهو يقول: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي يقول: (اعلم أبا مسعود) فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا ( وفي رواية فسقط السوط من يدي من هيبته) ويمضي أبو مسعود في روايته: فقلت يا رسول الله هو حرّ لوجه الله، فقال (صلى الله عليه وسلم): أما لو لم تفعل للفحتك النار .. وها هو أبو هريرة يتحدث عن حبيبه (صلى الله عليه وسلم) فيقول: بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بعث فقال: إن وجدتم فلانًا وفلانًا (رجلين من قريش مجرمين مدانين سماهما) فاحرقوهما بالنار، ثم قال (صلى الله عليه وسلم) حينما أردنا الخروج : (إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا .. وإن النار لا يعذب بها إلا الله فان وجدتموهما فاقتلوهما). وأصبحت هذه التعاليم النبوية السمحاء ملء قلوب الصحابة الأجلاء، يحرصون على إفشائها وذيوعها بين الناس، من ذلك: أن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) مر على فتية من قريش قد نصبوا طيرًا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا... فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا.. إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا (أي هدفا يرمي إليه). ومن ذلك ما يرويه هشام بن حكيم بن حزام (رضي الله عنه) أنه مر بالشام على أناس من الأنباط، وقد أُقيموا في الشمس وصُبّ على رءوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج (وفي رواية حبسوا في الجزية)، فقال هشام: أشهد إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا – رواه مسلم – فدخل على الأمير فحدثه بذلك فأمر بهم فخلوا. وقد حرص الخلفاء الراشدون على إقرار هذه المبادئ، فأخذوا يتعقبون الولاة والعمال في الأمصار؛ ليرصدوا سلوكهم مع رعاياهم حتى يأمنوا عدم انحرافهم عن قواعد الرحمة والعدل والترفق بالناس، وحسبك أن تذكر وصايا الصديق إلى جيوش الفتح: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة ... وحسبك أن تذكر قصة القبطي الذي شد الرحال من الفسطاط إلى مدينة الرسول(صلى الله عليه وسلم) ليشكو إلى الخليفة عمر من ابن الأكرمين (ابن عمرو بن العاص) الذي لطمه على وجهه، وهو لم يجشم نفسه مشقة السفر إلا لوثوقه من أن هناك أميرًا عادلاً سوف يقتص له من ابن الأكرمين. فما كان من الخليفة العادل إلا أن بعث يستدعي ابن العاص، ليقول له تلك المقولة الخالدة التي ازدان بها تاريخ الإنسانية : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟).. ها هو عمر الفاروق يوصي رعيته ليجعل منهم رقباء على عماله على الولايات الإسلامية في عهده بوصايا لازالت تتردد في سمع الزمان فيقول: ( إني لم أبعث عمالي ليجلدوا ظهوركم، ولا ليأخذوا أموالكم إنما بعثتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم). حسبك أن تذكر هذا وغيره من صور العدل والتراحم والرفق واحترام كرامة الإنسان؛ لتدرك مدى الهاوية التي انحدر إليها واقع المسلمين في الأزمنة والأمكنة التي نأت عن هدى النبوة؛ حيث تغشى عينيك صور التعذيب والتنكيل، وتجرح فؤادك مشاهد المثلة والهوان، وسوف تخدش سمعك أخبار احتزاز الرءوس وحرق الجثث، ونبش القبور وصلب الأجساد الخامدة وهي متلفعة في أكفانها.. ولا ندري من أين تسربت هذه النزعة الشريرة إلى نفوس القادرين على ارتكاب هذا المنكر، إلا أن يكون الشر والخسة بذورًا متأصلة في تكوينهم النفسي، فلا يمنعهم عن فعلهم وازع من دين ولا رادع من عقاب، ولا وشيجة من ذمة وقربى ولا يقظة من ضمير، وإنما هي الرغبة الجامحة في الانتقام، والهوس الأعمى الذي يطمس على قلب الإنسان فينتزع منه كل نبض من عطف أو رحمة.