تدوين القانون
الدكتور عادل عامر
ما أن اهتدت الشعوب إلى الكتابة حتى بدأت في تدوين أوجه نشاطها الحضاري المختلفة ومن بينها القانون.
المدونات الرسمية والمدونات العرفية : بعض الشعوب دونت قانونها وأصدرته في صورة تشريع، كما حدث في روما وبلاد الإغريق وبابل ومصر، وهذه هي المدونات الرسمية codes، وبعضها الآخر دونته في سجلات من وضع الأفراد المهتمين بالقانون ولم يصدر به تشريع من السلطة الحاكمة فأخذ صورة السجلات العرفية.
أسباب التدوين: يرجع انتشار ظاهرة تدوين القانون في تاريخ البشرية لعدة أسباب أهمها:
1- تعدد القضاة :
بعد أن اتسعت رقعة الدولة وازداد عدد سكانها، إذ يستحيل في هذه الحالة انفراد شخص واحد بالقيام بوظيفة القضاء في المجتمع ولذلك يتعدد القضاة. ولابد حينئذ من وجود قواعد قانونية موحدة يطبقها القضاة المتعددون وأيسر سبيل لذلك هو تدوينها
2- حفظ القواعد القانونية من الضياع والتبديل :
اعتمدت الشعوب قبل الكتابة، على ذاكرة الشيوخ في معرفة التقاليد القانونية السائدة، الأمر الذي يعرضها للنسيان أو التحريف والتبديل، والكتابة هي خير وسيلة لتجنب ذلك.
3- توضيح القواعد القانونية وتعميم تطبيقها :
إن تدوين القانون هو الوسيلة الفعالة ليس فقط لإثبات القواعد الواجبة التطبيق بل لضمان تعميمها ووضع حد لما قد يثور من خلافات حول وجودها وحول تفسيرها فلا تكون عرضة لتغييرها وتفسيرها طبقاً لأهواء القائمين على تطبيق القانون, الأمر الذي يكفل احترامه.
4- نشر القانون :
ويتصل بالسبب المتقدم سبب آخر للتدوين هو نشر القانون بين الناس حتى لا يستأثر بالعلم به طائفة معينة منهم تطبقه وتفسره طبقاً لأهوائها ومصالحها الطائفية والطبقية.
مميزات المدونات القديمة: تميزت بعدة مميزات أهمها:
1- صورة صادقة لمدى تقدم المجتمع:
لا ترجع أهمية المدونات القانونية القديمة إلى دقة صياغتها أو حسن تبويبها فهي كانت بعيدة عن ذلك، فقيمة هذه المدونات ترجع إلى أنها تعطينا صورة صادقة وأمينة لحالة المجتمع الذي ظهرت فيه سواء من النواحي الاقتصادية أم القانونية أم الدينية، أم السياسية..
2- من حيث صياغتها:
تميزت صياغة المدونات القديمة بصفة عامة باتباعها ترتيباً وتبويباً خاصاً يبعد بها عن المألوف لدينا في الوقت الحاضر، وبصياغة أحكامها في أسلوب موجز، يكاد يكون شعرياً، في جمل شرطية تبدأ كل منها بأداة الشرط مثل « إذا ، إن .. إلخ » وتنتهي بجواب الشرط حيث يظهر الحكم وجزاؤه، وهذه الجمل تصاغ عادة بضمير الغائب. وتتميز هذه الصياغة أيضاً باهتمامها بالفروع والحلول الجزئية، ومن النادر أن تحتوي على مبادئ وأصول عامة.
3- من حيث مضمونها:
اختلف مضمون المدونات القديمة تبعاً لحالة الشعب الذي صدرت فيه. فبعضها اقتصر على القواعد القانونية وحدها ولم يتعرض للدين أو الأخلاق إلا في القليل النادر لأن المجتمع كان قد وصل – عند التدوين – إلى مرحلة انفصال القانون عن الدين، مثل الرومان والإغريق والبابليين. والبعض الآخر من المدونات ضم خليطاً من القواعد الأخلاقية و الدينيةو القانونية لأن التدوين حدث في وقت كان المجتمع يعيش في ظل التقاليد الدينية ولم يصل بعد إلى مرحلة فصل القانون عن الدين، مثل الهنود واليهود.
وبعض المدونات، وبصفة خاصة مدونات النوع الأول، لم يكن تقنيناً شاملاً لكل القواعد القانونية السائدة وقت وضعها بل اقتصر على تدوين بعضها سواء لإيضاحها بعد أن كانت غامضة أو لوضع حد لما يثور من خلافات حول تفسيرها ولكنها تركت القواعد المستقرة الواضحة التي لا خلاف حولها إلى العرف، مثل قانون الألواح الإثنى عشر عند الرومان. والبعض الآخر من المدونات – وخاصة مدونات النوع الثاني – اشتمل على كافة قواعد السلوك في المجتمع منذ ولادة الإنسان حتى وفاته، مثل قانون مانو الهندي.
4- من حيث مدى احترام الناس لها:
اكتسبت القواعد القانونية التي تضمنتها المدونات القديمة قدراً كبيراً جداً من الاحترام. وهذا الاحترام لا يرجع إلى خوف الناس من الجزاء الذي يطبق عليهم عند مخالفتهم إياها بقدر ما يرجع إلى الظروف التي أحاطت بصدورها. فبعضها صدر عن الآلهة « مثل قانون مانو عند الهند »، وبعضها صدر عن مصلح اجتماعي مشهور أو زعيم سياسي ذائع الصيت « مثل مدونة حمورابي في بابل وصولون في أثينا »، وبعضها صدر نتيجة أحداث سياسية واجتماعية هامة فكان الشعب بالغ الحرص في احترامها والحفاظ عليها مثل « قانون الألواح الاثنى عشر في روما ».
أشهر المدونات القانونية القديمة :
لا نستطيع التعرض لكل المدونات القديمة التي صدرت في البلاد بل سنقتصر على دراسة أشهرها وهي مدونة حمورابي في بلاد ما بين النهرين، بوكوخوريس في مصر، ذلك في الشرق ومدونتا دراكون وصولون في بلاد الإغريق وقانون الألواح الإثنى عشر عند الرومان ذلك عند الغرب.
أشهر المدونات القانونية في الشرق
أولاً : مدونة حمورابي :
تاريخ ومكان صدورها : صدرت هذه المدونة في بابل في بلاد ما بين النهرين «العراق حالياً» أثناء حكم الملك