الجريمة والعقاب
الدكتور عادل عامر
الجزء الاول ـ الظاهرة الاجرامية
كان لتمثال اله الحرب (كانيوس Janus) في الامبراطورية الرومانية وجهين، الاول يتجه الى خارج حدود روما حيث يتربص بها العدو الاجنبي. بينما يتوجه وجهه الاخر نحو روما حيث يتربص بأبنائها العدو المحلي (المجرم) (1). وكان الرومان يؤمنون ايماناً راسخاً بأنهم لن يستطيعوا الصمود امام العدو الاجنبي مادام السوس ينخر في داخلهم. اثارت الجريمة والظاهرة الاجرامية اهتمام الانسان منذ القدم خاصة وان الحياة الانسانية على البسيطة ابتدأت بجريمة عندما قام قابيل بقتل اخيه هابيل. وبفعله هذا الذي ندم عليه فيما بعد ندماً شديداً، يكون قد اعلن عن فتح باب الصراع الازلي بين الخير والشر الذي ما برح مستمراً ليوما هذا وسيستمر لا محالة مادام الانسان موجوداً الى جانب اخيه الانسان الاخر. وقد نظمت القوانين القديمة قواعد الجريمة والعقاب ومنها، قانون اورـ نمو وقانون حمورابي (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) وسارت على ذات النهج قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م). كما ونظمت بعض الاديان السماوية وغير السماوية قواعد الثواب والعقاب بالنسبة لاعمال المكلفين. قال تعالى (وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (2). أي أن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها القدرة على التمييز بين الفجور والتقوى. ولهذا فان الظاهرة الاجرامية ظاهرة تاريخية وواقعية وحقيقة انسانية دائمة،لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات في كل زمان ومكان ولا يمكن انهائها مطلقاً الا انه يمكن الحد منها الى مستويات مقبولة. وتثير الجريمة اهتمام وانتباه كل الناس على حد سواء، بل ان اخبار الجرائم والروايات التي تتناول الظاهرة الاجرامية هي الاكثر انتشاراً وتوزيعاً في الاوساط العامة من بين ما عداها من اخبار وروايات. ان السبب في ذلك حسب اعتقادنا هو الاحساس العام بان الجريمة تمس شعور كل فرد من افراد المجتمع ولو لم تقع عليه الجريمة مباشرة، فالجريمة ابتداءاً،هي اعتداء على فكرة الحياة الاجتماعية التي تقوم على التضامن بين ابناء المجتمع فضلا عن انعكاساتها الخطيرة على توازن المصالح والقيم داخل المجتمع بما تمثله من اعتداء على تلك المصالح والقيم. ان اولى الابتكارات البشرية لمواجهة الجريمة بشكل واقعي هو القانون، فقد اولت التشريعات القديمة اهمية قصوى لتحديد الجرائم والعقوبات التي تناظرها، وكانت العقوبات في تلك القوانين بدائية وقاسية جداً. ويذهب عالم الاجتماع اميل دوركهايم الى ان دراسة التاريخ تؤكد انه كلما اقترب المجتمع من التحضر كانت العقوبة اقرب الى الرحمة، وكلما كان المجتمع متخلفاً برزت العقوبات البدائية التي تتميز بالعنف والقسوة،كما ان العقوبات تكون مشددة وقاسية كلما كانت السلطة مركزية اقوى. ومن ذلك ان العقوبات في النظم الدكتاتورية تكون ذات طبيعة انتقامية لدرجة الوحشية. ان تطور النظم القانونية والعلمية التي تواجه الجريمة قد قابله في ذات الوقت تطور على ذات المستوى في الاساليب الاجرامية، فقد دخل العلم والتكنولوجيا والتنظيم المؤسسي الحديث عالم الاجرام واصبحت للجريمة منظمات دولية تمارس العمليات الاجرامية عبر القارات. وكتعبير عن اهتمام الانسان بالجريمة تناولت الاساطير القديمة الظاهرة الاجرامية وفسرتها بطريقتها السحرية الميتافيزيقية، وفي القرون الوسطى ساد الاعتقاد بان سبب الجريمة هو الارواح او الشياطين الي تتلبس الانسان فيتحول بالنتيجة الى مجرم وفي العصور الحديثة كانت الجريمة والظاهرة الاجرامية محل دراسة علوم مختلفة فقد اهتم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والقانون بدراسة وتحليل الظاهرة الاجرامية مما ادى الى نشوء علم مستقل هو علم الاجرام الذي تفرع بدوره الى ثلاثة فروع علمية تدرس الظاهرة الاجرامية هي علم الانثروبولوجيا الجنائية وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي،كما اهتم العلماء في مختلف الاختصاصات العلمية بايجاد الوسائل العلمية والتكنلوجية اللازمة لرصد الجريمة وتتبع اثارها وصولاً الى الكشف عنها. ان اعتماد المنهج العلمي التجريبي في علم الاجرام يقتضي تحديد اوجه الظاهرة الاجرامية، والحال ان للظاهرة الاجرامية وجهين، وجه اجتماعي تبدو فيه الجريمة ظاهرة اجتماعية. ووجه فردي تبدو فيه الجريمة ظاهرة فردية تتمثل بالانسان المجرم، كما ان للعلم الحديث دوره في رصد الجريمة والظاهرة الاجرامية.